مع حلول يوم 18 آذار الحالي تتم الثورة
السورية سنتها الثالثة منذ بدء الانتفاضة الشعبية في مدينة درعا والتي توسعت إلى بلدات حوران بالتوازي مع ريف دمشق وبانياس واللاذقية وحمص، لتتوسع قاعدتها الشعبية في وقت سريع بحكم العنف الدموي الذي واجه النظام به الحراك الشعبي وفي المناطق التي شكلت قيم التضامن العشائري والاحترام للدم ثقافة مؤسسة لتعاملها الصدامي الجذري مع السلطة.
مثلت السنة الأولى من الثورة المرحلة الأكثر حماسة في الشعور الثوري وحلم إسقاط النظام لدى الحراك الثوري، والأكثر صدامية داخل المجتمع السوري نفسه الذي تقلقلت الكثير من بداهاته المكرسة لدى النخب أو المؤسسة الدينية أو الشرائح الاجتماعية ضمن الواقع المستحيل المتمثل بأن الثورة على النظام أو التفكير بسقوطه هو ضمن أفق الممكن، وعملت الثورة على تحقيق انتشار جغرافي وشعبي كافٍ لبناء قاعدة صلبة مواجهة للنظام وتسقط شرعيته أمام العالم الذي اتخذ موقعاً مركزيّاً في خطاب الثورة التي راهنت على عدم قدرة النظام على تعدي حدود معينة في العنف المعلن أمام وسائل الإعلام، الرهان الذي شهد فشله مثل عديد من الرهانات التي افترضتها مثل مشاركة الأقليات أو جدوى المعارضة السياسية أو إمكانية الحل السلمي أو احتمالية حصول انشقاقات مؤثرة في قيادات النظام.
كانت سمة السنة الثانية من الثورة هي الانتشار العسكري بعد الانتشار الشعبي في السنة الأولى، حيث تحقق في هذا العام عمليات تحرير واسعة لتسيطر المعارضة على مناطق جغرافية شاسعة في حوران وحمص وإدلب وريف دمشق ودير الزور مع دخولهم إلى مدينة حلب العاصمة الاقتصادية، وتحريرهم للرقة لتكون أول مركز مدينة تسيطر عليه المعارضة، مع ما رافقه ذلك من تحديات إدارية وعسكرية ومن إشكاليات التواؤم بين الريف والمدينة، كما بدأت كتائب الجيش الحر تتوسع: مناطقيّاً وعدديا عبر تشكيل جبهات وتحالفات موسعة، وأيديولوجيا حيث بدأ الخطاب الإسلامي يتخذ طابع المشروع السياسي والخطاب الايديولوجي الناجز، أدى إلى ذلك تطور المعارك وامتدادها الشاسع، إضافةً لتأثير الدعم الشعبي والإقليمي، وتزايد عنف النظام وطابعه الطائفي بشكل مركز ومعلن، كما أثر دخول القاعدة بشكل رسمي عبر جبهة النصرة وتوافد المهاجرين إلى الساحة السورية، في دفع الكتائب من خطابها الشعبي العفوي إلى الايديولوجيا ذات النزعة والتمايز الواضح، مع استمرار اكتشاف عقم التعويل على المعارضة السياسية أو التدخل الدولي أو الحل السلمي.
شهدت السنة الثالثة تفجر صراعات متراكمة وكامنة ضمن الثورة أو التيار الجهادي الذي أضحى فاعلاً رئيساً فيها، بالتوازي مع انهيار رهانات شعبية ليحلّ محلّها الواقع مغلق الأفق والذي يزداد عنفاً وتدميراً وحصاراً، وأضحى وجود المقاتلين الشيعة الوافدين من العراق ولبنان معلناً ومتزايداً ومؤثّراً في الحرب السورية الإقليمية، مع حسم معركة القصير في حزيران وسلسلة الهدن في الريف الدمشقي بعد آب وسقوط يبرود في آذار قبل أيام فقط من الذكرى الثالثة، ومع استخدام السلاح الكيماوي في دمشق والتوسع في استخدام البراميل المتفجرة في حلب ووصول حدّ تحمل الحصار المطبق على مناطق ريف دمشق وحمص إلى أقصاه، وقدرة النظام على استرجاع مناطق من ريف حلب الجنوبي وصولاً إلى تهديد المنطقة المحررة نفسها، حقّق النظام تقدّماً في تثبيت مناطق سيطرته وتهديد وجود الثورة في أكثر مناطقها رسوخاً، لا وجودها العسكري وحده بقدر وجودها الاجتماعي الذي انحسر إلى بلدان الجوار.
مع انحسار مفهوم الجيش الحر، وتنامي المجموعات ذات الطابع الايديولوجي الإسلامي المعلن الذي بلغ أوجه مع إعلان الجبهة الإسلامية تشرين الثاني 2013م، شهد التيار الجهادي العالمي إحدى أعقد أزماته مع إعلان "دولة الإسلام في العراق والشام" التي أسهمت إلى جانب النظام في حصار الثورة وتهديدها والتي أحكمت سيطرتها على مناطق شاسعة وحاولت القضاء التدريجي على وجود الثورة ونشطائها، وبرزت إحدى التجليات الأكثر عنفاً وبشاعة لحركات "ما بعد القاعدة"، ما وصل بعد شد وجذب طويل ومرتبك إلى الصدام المسلح العنيف ما بين تنظيم الدولة وكافة تنظيمات
الثورة السورية والحركات الجهادية وفي مقدمتها جبهة النصرة، ليستطيع التيار الجهادي اجتياز أزمته بالانحياز إلى جبهة النصرة والتنبه إلى صعوبة إهمال المجتمع كواقع محدّد لنجاح أي مشروع.
وأسوة بالعامين السابقين فشلت مرة أخرى رهانات التعويل على التدخل الدولي أو الحل السياسي مع التهريج الفجّ الذي رافق مفاوضات جنيف2.
ودون الإغراق في اليأس أو الدعوة إليه، فقد شهدت الثورة السورية في عامها الثالث تحدّيها الداخلي والإقليمي الأصعب والأكثر تهديداً لمستقبل وجودها العسكري أو الاجتماعي، بالتوازي مع ظاهرة عزوف أو عجز عن الاستمرار لدى فئات من المدنيين أو النشطاء أو المقاتلين مع تهديد النظام وحلفه الشيعي الإقليمي أو داعش أو الواقع الإنساني والاقتصادي الصعب، ولئن شهدت هذه السنة هزائم عسكرية وسياسية عدة، فقد كانت قدرة الثورة على الاستمرار وتحقيق انتصارات في مناطق متفرقة شاهداً على مدى تجذرها واستحالة إنهائها في الواقع السوري، ولكنه منبه على إمكانية انحسارها وتراجعها أيضاً.
ومع تذكر السوريين لأيام بدء الثورة المستحيلة واحتفالهم الرمزي بذكراها الثالثة، نشهد تناسياً شبه متعمد للحقيقة الأكثر وضوحاً وإلحاحاً وقساوة: أننا نبدأ السنة الرابعة من هذه الحرب الطويلة.