كتب وائل أبو هلال: اعتاد العقل العربي – عامّاً كان أم مثقفاً - على تفسير الأحداث مرتكنا إلى عقلية المؤثر الخارجي (سواء مؤامرة أم غيرها)؛ فعندما انطلق الربيع العربي ظهرت على السطح - كالعادة - تفسيرات تؤكّد أنّ ما يجري مؤامرة يقودها الغرب وأعداء الأمة من الصهيونية العالمية والصليبية الغربية الحاقدة!!
بل وأرجعوا ذلك كلّه لفيلسوف يهودي فرنسي "برنار ليفي" وأنّه هو وراء خروج الملايين في الشوارع العربية وأنّه من أسقط أربعة أنظمة عربية!! وفي كلّ ذلك تغافلٌ وتسطيح وتسخيف للذّات، وتناسٍ للعامل الداخلي وللرّوح التي تسري في الأمّة فيما جرى ويجري وسيجري، وكأنّهم يستكثرون على الأمّة وشعوبها أنْ تقوم بشيء ذاتيّ مهما كان. وكذا الرّوح الانهزامية دوماً!
بيد أنّ المتعمّق فيما جرى والمتابع لما يجري من أحداث وحراك ما زال مستمرا لأكثر من ثلاث سنوات يدرك تماماً أنّ نظرية (الخارج) سخيفة وسطحية! بل وسقطت تحت أقدام الشباب العربي الذي يقود حراكاً جاهدا في شوارع وميادين العرب، ينطلق من روحٍ وثّابة أثّرت على الكون كلّه؛ حتى غدت القوى الثائرة على الظلم تجوب شوارع العالم هاتفة هتاف العرب: ارحل! و "الشعب يريد ..."
لكنّ الجزء المأساوي من الصورة في بعض بلدان الربيع العربي، والذي يحاول إعلام الفجور تعميمه وفرضه علينا، قد يطغى على المشهد الكلّي ويعيد الحياة لنظريات المؤامرة تلك، ويعزّز سوء الظنون بالأمّة وشعوبها. إلاّ أنّه وبرغم ما قد يبدو في "زوايا" الصورة الكلّية من بؤسٍ ودماءٍ وشقاء فإنّ "آفاق الثورة" ما زالت مبشّرة بفجر مشرق بالحرية والعزّة والكرامة؛ ففي ظلّ مشهد الجثث المحروقة والأشلاء المجروفة والدماء "الحمراء"، قد تغفل عين اليائس عن الأفق "الأخضر" الذي يحيط بنا في كل حنايا الوطن العربي، ولا تراه إلاّ عيون الأحرار أصحاب الإرادات العظيمة والمفعمة بالأمل بالله أولاً ثم بالثقة بذواتهم ثانيا.
أملٌ حقيقي لا تخديري:
نتعلّق بهذا الأمل منطلقين من عدّة حقائق على الأرض:
أولا: لاشكّ أنّ "الفجور ليس له قعر"، وربّما غير مسبوق تاريخياً، وحجم ونوع الفجاجة تؤكّد أن مرتكبيها لا يمتّون للإنسانية بصلة: فمن "أوباما" الإخواني وشقيقه الذي يدير أموالهم، إلى الشهيد صلاح شحادة الذي يدير القساميين المنتشرين في القاهرة من قبره وحسن سلامة الذي يخطّط لتفجير المترو من سجنه! إلى الوثيقة الموقعة بين الإخوان وإسرائيل وأمريكا لزعزعة مصر، ناهيك عن حجم وطريقة القتل والدمار في سوريا ومصر (الحرق للجرحى والبراميل المتفجرة والكيماوي..)، والاغتصاب والاعتقال الذي أصبح سلاحاً استراتيجياً لدى الأجهزة القمعية ...
هذه حقيقة لا يمكن إنكارها؛ بيد أنّ هناك حقيقة أخرى تقابلها، ولا يمكن إنكارها أيضاً، وهي أنّ حجم الوعي والاستعداد للتضحية والتحدّي في الأمّة "ليس له سقف"! فشباب مصر أطلقوا شعارهم الرائع "مكمّلين" مباشرة عقب استشهاد أربعة آلاف وحرق جثثهم خلال ساعات، والقادة تقدّموا الصفوف وقدّموا أبناءهم وبناتهم شهداء، والفتيات غدون أيقونة الشهداء والمرأة قادت الشارع غير آبهة بما يهاب منه أعتى الرجال! و"الشهادة" والشهداء ورواياتهم أصبحت ثقافة شعبية.
هذه روحٌ من التضحية والتحدّي تعانق السماء، إذا سَرَتْ في أمّة لا شكّ أنّ "الأمل" بانتصارها حقيقة واقعة على الأرض بإذن الله؛ خاصّة إذا ترافقت هذه الرّوح مع وعي لا تخدعه عشرات الفضائيات، وأبواق مدّعي الثقافة والتحليل الاستراتيجي!
ثانيا: الإنهيار الاقتصادي الذي يحاول الإنقلابيون إنقاذه بمليارات الذلّ و"المنّ والأذى" حقيقة واقعة تحدّث بها حتى مؤيدو الانقلاب من الاقتصاديين، وهو انهيار مستمر يكتوي به للأسف الشعب المصري، ولا يمكن بحال للمساعدات أن تنفق على تسعين مليون مصري مهما بلغت! خاصّة في ظلّ جشع النخبة الهائل والّذي ينهبون معظم هذه المليارات.
هذه الحقيقة على قساوتها تؤكّد أنّ "ربيع" الشعب المصري الذي سُقي بماء النيل ودماء المصريين ما زال يبثّ "الأمل" بانهيار الانقلابيين والفاسدين وفلول الدولة العميقة وأجهزتها القمعية.
ثالثا: الاختلافات بين أطراف المعسكر الإنقلابي وأهل الردّة الثورية أكبر وأعمق من أنْ يستمر معها تحالفهم؛ وستبرز هذه الخلافات مع اقتسام أوّل "كيكة"! وقد حصل، وبدأت خلافاتهم تظهر على السطح، وها هم رموزهم يتنابزون بالتسريبات والتسريبات المضادة. إنّ حقدهم على الإسلاميين ونبذهم لثقافة الديمقراطية سرعان ما يوقعهم في شرّ فسادهم! وإنّ "غنائم" هذا الفساد أقلّ من أن تشبع جشعهم! هذه حقيقة بدأها "البرادعي" ولن يختمها "صباحي"!
وهذه الحقيقة تعضّدها حقيقة أخرى: أنّ تحالف الشرعية يكتسب يومياً – برغم القمع والإجرام - أنصار جدد؛ ولم يعد "الإخوان" يشكّلون أكثر من 30 % من الحراك اليومي. حقائق تزيد اليقين بأنّ المستقبل لشرعية خطّ طريقها الشعب المصري منذ اليوم الأول الذي هتف فيه: الشعب يريد ..
آخر الكلام:
شعب انطلق يطلب الحريّة وسقى ربيعها بدماء أبنائه وبناته لن يعودَ إلاّ حاملاً لواءها ..