على مدى أكثر من أربعين شهراً - من ديسمبر عام 1978م وحتى يوليو 1982م - أنجز مجلس الشعب
المصري بقيادة فقيه الشريعة والقانون المرحوم الأستاذ الدكتور صوفي أبو طالب (1343 – 1429 هـ ، 1925 – 2008م) أعظم مشروع لتقنين
الشريعة الإسلامية وفقه معاملاتها شهده الشرق الإسلامي في
تاريخه الحديث.
ولقد قامت بإنجاز هذا العمل التاريخي ثمانية لجان، هي اللجنة الخاصة التي رأسها الدكتور صوفي، والتي قادت العمل، ولجنة التقاضي ورأسها الأستاذ ممتاز نصار، ولجنة القوانين الجنائية ورأسها الأستاذ حافظ بدوي، ولجنة المعاملات المدنية ورأسها الدكتور جمال
العطيفي، ولجنة التجارة البحرية ورأسها الأستاذ أحمد علي موسى، ولجنة قانون التجارة ورأسها الدكتور طلبة عويضة.
ولقد أنجزت هذه اللجان تقنينا للشريعة الإسلامية بمذاهبها الفقهية المعتبرة في صورة تقنين حديث، تقوم فيه "الأصالة" بتحقيق المصالح المعتبرة.
ولأن الشريعة الإسلامية - كما يقول فقهاء القانون - شريعة إقليمية، أي تطبق على الإقليم والوطن والأمة، وليست خاصة بطائفة دون أخرى - لأن عقائد الإسلام وعباداته هي خاصة بالمؤمنين بالإسلام، وعقائد المسيحية والأحوال الشخصية فيها هي خاصة بالمسيحيين، بينما المعاملات الشرعية الإسلامية - التي لم تأت المسيحية بمناظر لها - هي قانون الأمة والدولة والإقليم - لأن هذه الحقيقة يعرفها كل فقهاء القانون - وعلى رأسهم السنهوري باشا - الذي نبه على أن الوحدة الوطنية إنما تقوم على وحدة المدرسة والمحكمة والقانون، لذلك شارك أقباط مصر في لجان تقنين الشريعة الإسلامية، فكان من أعضاء هذه اللجان نخبة من رجال القانون الأقباط، منهم الأساتذة حنا ناروز، ووديع داوود فريد، وجورج روفائيل رزق، وعدلي عبد الشهيد، ونشأت كامل برسوم وإسطفان باسيلي.
وفي جلسة مجلس الشعب، التي عقدت في يوم الخميس 10 رمضان عام 1402هـ - أول يوليو عام 1982م، والتي أعلن فيها رئيس المجلس - الدكتور صوفي أبو طالب – إنجاز هذا "العمل التاريخي الخلاق"، تحدث عدد من الأعضاء، ومنهم القانوني الأستاذ إسطفان باسيلي - الذي أمضى في الحياة القانونية سبعة وخمسين عاما - تحدث عن هذا العمل التاريخي الخلاق، فقال كلمات تستحق أن تدخل في الكتب الدراسية، وأن تسلط عليها الأضواء، فقال: "باسم الله الوهاب، السيد الدكتور رئيس المجلس، السادة الزملاء الأعزاء: إنني إذ أتحدث الآن، وفي هذا الموضوع بالذات، فإنني أشعر أن التاريخ هو الذي يتكلم، لشيخوختي أولا، ولأني عشت في العمل القضائي سبعة وخمسين عام، ولقد عرفت بمضي المدة أن الشريعة الإسلامية هي خير ما يمكن أن يطالب به لا المسلم وحده بل أيضا المسيحي - (تصفيق) - لأن بها كل ما يرضينا، والعهدة النبوية الموجودة في دير سيناء، والمكتوبة بخط الإمام علي، تؤكد الحفاظ علينا في كل ما لنا من حقوق وما علينا من واجبات، والقاعدة الشرعية "أمرنا بتركهم وما يدينون" واليوم، ومع هذه البهجة التي أراها، أحس كأنه يوم دخول الإسلام إلى مصر، اليوم يستكمل كل ما كان ناقصا وواجب الإكتمال فيما يتعلق بتطبيق الشريعة الإسلامية وما فيها من مصادر الرحمة الكثيرة بالنسبة للمواطنين، لقد رأيت تجارب كثيرة في حياتي، وعلى سبيل المثال كان الولد يموت في حياة أبيه فلا يرث أبناؤه شيئا، ويحصل الأعمام والعمات على كل تركة الجد، ولكنهم وجدوا أن الشريعة الإسلامية بها أحكام تنصف هؤلاء الأبناء، فكانت الوصية الواجبة عام 1946م، لقد عشت معركة عند وضع القانون المدني عام 1948م وكانت اللجنة من بينها الأخ الدكتور السنهوري والدكتور صادق فهمي وكان الكفاح كله يدور حول سيادة الشريعة الإسلامية على التشريع المدني، وفعلا جاء التشريع وليس به مخالفة واحدة للشريعة الإسلامية، وإنما تشريع اليوم يمتاز بأن به كل شئ حسن، وبه ضوابط تريح كل المواطنين، ولا تغير من واقع عشناه جميعا، وستصدر التشريعات ولن يشعر أحد بأن هناك حقا ضاع له، فكلها جاءت لتصون الحق وتحميه، فالشئ الذي يأتي وباسم الدين فإنه يرطب الحلق ويريح النفس ويهدئ الأعصاب، لذلك أقول إنه يوم بهجة يوم أن يكون اسم الشريعة الإسلامية هو المسيطر على كل تشريعاتنا، فإن في ذلك ما يسعدنا، وللذين جاهدوا عند الله أجر على ما عملوا، والحمد لله، وشكرا. والسلام عليكم"- (تصفيق) -.
إنها لحظة من لحظات التاريخ المشرق لهذا الوطن، وإنها كلمات جديرة بأن تسلط عليها الأضواء، وأن يعيها أبناء هذا الوطن، وإذا كان المخلوع حسني مبارك قد حبس هذه القوانين في الأدراج، فجدير بنا - بعد ثورة يناير - أن نخرجها، وأن تأخذ طريقها للممارسة والتطبيق.