كتب حسن أبو طالب: في حوار المشير السيسي مع نخبة من الإعلاميين، نُسب للمرشح الرئاسي ما يفيد قوله إن الرأي العام هو من يقود المشهد السياسي الآن، وأن الإعلام يؤثر بقوة في تشكيل هذا الرأي العام.
بهذا المعنى فهمت أن الرسالة التى وجهت للإعلاميين أن عليهم مهمة وطنية من الدرجة الأولى، وهى كيف يشاركون فى صنع رأى عام مصرى وطنى يدرك حقائق الوضع ومجمل الأزمة أو الأزمات التى تواجهها البلاد بغض النظر عمن هو الرئيس المنتظر، وفهمت أيضا أن على الإعلاميين أن يتحملوا مسئوليتهم فى دفع الرأى العام للقيام للعمل والإنتاج والتضحية النسبية وتحمل الصعاب وصولا إلى مرحلة النمو والانفراج والانطلاق.
وما فهمته ثالثا أن هناك رسالة ضمنية، أو هكذا أظن، بأن يقوم الإعلاميون أنفسهم لا سيما البارزون والأكثر مشاهدة بعملية نقد ذاتى وصولا إلى بلورة دورهم الجديد فى صنع مجتمع ناهض ومتماسك وواعٍ بكل ما يدور حوله. مع ملاحظة أن ما فهمته هو ما يخصنى و لا يخص بالتالى المرشح الرئاسى أو الذين نقلوا عنه.
أعرف أن ثقافة
النقد الذاتى هى ثقافة غائبة عن مجتمعاتنا الشرقية، ومن يقدم عليها ينظر له باعتباره خائبا ومتراجعا، وليس باعتباره باحثا عن الأصوب من خلال مراجعة خبرته الذاتية بكل موضوعية وتواضع، وباحثا عن تعزيز الأفضل والتخلى عن الأسوأ. وأعرف أيضا أن الكثير منا تأخذه العزة بالإثم ويُصر على مواقفه حتى ولو تيقن بأنها مواقف ضارة به وبغيره، وذلك لكى لا يبدو أمام الناس متراجعا أو متخاذلا. وننسى جميعا المقولة الجميلة بأن الاعتراف بالذنب والعودة إلى الحق هى طريق النجاة.
بيد أن معرفتنا بمثل هذه السلوكيات الشائعة فينا وإن بدرحات مختلفة تدفعنا أكثر وأكثر للمناداة بضرورة مراجعة الإعلاميين لمواقفهم تجاه الوطن والناس والمؤسسات، وضرورة مراجعة المؤسسات الإعلامية لتجربتها وسلوكها، خاصة فى السنوات الاربع الماضية. وبدون ذلك سيظل الكثير مما ننتقده ونرفضه كمواطنين بسطاء موجودا، وبالتالى سيظل المشهد الإعلامى العام مُحملا بالغبار والتضليل والخداع، وبدلا من أن يبنى رأيا عاما بناءً، يدفع الوطن بأسره إلى الوراء.
لقد تطور دور الإعلام من الناحيتين الشكلية والموضوعية، ولم يعد الإعلام بكل أشكاله مجرد وسيلة لنقل الأخبار كما تقول الكتب النظرية، أو أداة لتعزيز الأفكار لدى المشاهدين كما يدعى بعض الإعلاميين، فقد أصبح لاعبا أساسيا فى صياغة المشهد السياسى، ووضع الأولويات المجتمعية، وإثارة المشاعر الجماعية وافتعال بطولات واصطناع أبطال دون سند من واقع، بل بعض هؤلاء مدانون بالعقل والمنطق الوطنى الصرف، وبما قاموا به من أعمال موثقة بالصوت والصورة ضد مصالح المجتمع وحقوقه الطبيعية كحرق المكتبات والمدارس والمجمع العلمى والمؤسسات العامة والتباهى بذلك بكل عجرفة وابتذال. ولكنه الإعلام أو جزء منه الذى يقوم بتشويه الحقائق أحيانا، ويخلق الأبطال الوهميين ويشوه العقول، ويركز على هوامش الأشياء كثيرا ويتخلى عن جوهر الأحداث ودلالاتها، ويركز على الوقائع التافهة والعابرة ويتجاهل المضامين الرئيسية للحدث. مثل تلك المعالجات السطحية التى طغت أخيرا على التعامل الإعلامى لنتائج زيارة وزير الخارجية نبيل فهمى المهمة للولايات المتحدة، والتى نجح خلالها فى التواصل مع مراكز صنع القرار الامريكى ووضع الحقائق أمامهم وتصحيح المغالطات التى زرعتها قوى الشر الاخوانية فى الداخل الامريكى. إذ بدلا من التركيز على الزيارة ونتائجها والمطلوب لاحقا لإحداث مزيد من التغيير فى المواقف الامريكية التى تؤثر علينا، ركز الكثيرون على تعبير مجازى شبّه العلاقات بين البلدين كعلاقة الزواج الدائمة التى تتعرض بين الحين والآخر للمشكلات وتحتاج إلى الحوار والحرص المتبادل. وربما لم يكن تعبير الوزير موفقا إلى حد ما نسبة إلى تقاليدنا الشرقية، ولكنه يناسب العقلية الأمريكية التى تنظر للزواج كعلاقة تعاقدية قائمة على الندية.
لقد أصبح الكثير من الإعلاميين ناشطين سياسيين تدفعهم رؤاهم وانحيازاتهم قبل البحث عن الحقيقة أو التحلى بالمسئولية تجاه الوطن، والبعض الآخر يلهث وراء الإعلانات، وبالتالى وراء كل ما هو مثير. ومع ذلك لا يمكن تصور مجتمع معاصر بلا إعلام أو إعلاميين. فالإعلام جزء من المجتمع، والقائمون عليه يعكسون كل ما فى هذا المجتمع من شوائب ومشكلات أو إيجابيات وطموحات.
وجود ناشطين سياسيين فى صورة إعلاميين، لا ينفى وجود إعلاميين محترفين يلتزمون بدورهم فى تزويد الرأى العام بالحقيقة وبالحوار العقلانى حولها، وإشاعة الفكر الرصين والالتزام بالمسئولية الوطنية والمجتمعية ونشر القيم الرفيعة، ومواجهة الأدعياء وأنصاف المواهب فى كل المجالات. ومن بين هؤلاء يقع الشهداء فى معارك البحث عن الحقيقة كما هى، وليس كما يريد البعض أن تكون عليه ناقصة ومشوهة. ولعل المقولة المنسوبة للرئيس الاسبق أنور السادات حول دور الصحافة كسلطة رابعة تنطبق هنا على كل أشكال الإعلام المرئى والمسموع والاليكترونى والمطبوع. فالاعلام سلطة معنوية كبيرة، وهل هناك أقوى من سلطة تشكيل وتوجيه الرأى العام؟.
إعلام كهذا الذى نعيش فى ظله عليه أن يواجه الحقيقة، وهى أن مسئوليته تجاه الوطن والمجتمع توجب عليه أن يحاسب نفسه أولا بأول، وأن يطرد من داخله كل الدخلاء وكل العابثين وكل محترفى الإثارة والتشويه، واصطناع البطولات الزائفة، وعليه أيضا أن يضع لنفسه القواعد الذاتية التى تحكم عمله بعيدا عن أى تدخل حكومى أو رسمى، واستنادا إلى خبراته وقناعاته الجماعية حول دوره فى المرحلة المقبلة، مرحلة بناء
مصر جديدة تقوم على العمل والانتاج وتعزيز التماسك الوطنى ومواجهة قوى الشر والارهاب وعزلهم. الأمر جد ولا يحتمل الهزر أو التلاعب بالألفاظ والحكايا.
ما سبق يتطلب إرادة وسعيا نحو ضبط الأداء الإعلامى والحوار الصادق وصولا إلى ما يجب عمله دون تزيد أو تهوين. فمصر تدخل مرحلة دقيقة بكل معنى الكلمة، مرحلة إما تكون بعدها بلدا رائدا ونموذجا فى التحول السلمى نحو الديمقراطية والمشاركة المجتمعية والتنمية الاقتصادية الرشيدة بجهود أبنائها وبحكمة قياداتها، وإما تكون مجرد ذكرى فى التاريخ. الخيارات التاريخية باتت معروفة أمام الجميع، إما العمل والانضباط والبقاء بقوة، وإما التراخى والانشقاق والضياع. ومن لديه خيار تاريخى ثالث فليطرحه أمام الملأ. وحتما لن يجد.
(الأهرام)