منذ قيام
الثورة بات الفرز واضحا: أنصار الثورة وأهلها في مقابل خصومها وأعدائها والمتضرّرين من قيامها.. هذا من الوجهة النظرية، إذ إنّ لكل ثورة أنصارا تقوم بهم، وهؤلاء هم المظلومون والمقهورون.. وأعداءً تقوم عليهم.. وأولئك هم سلالة النظام القديم وبقاياه والمتمعشون منه.. هذه معادلة بديهية لا خلاف عليها...
والناس في البلاد ثلاثة أصناف: صنف مستفيد من الثورة ويعلن ذلك.. وصنف متضرّر منها ولا يبوح بذلك.. وصنف ثالث موضوعٌ.. إلى هؤلاء وإلى هؤلاء الآن وفي كلّ أوان.. وهنا وفي كلّ مكان.. فصيل مستفيد في جميع الأحوال.. وأولئك هم "الداخلون في كلّ ربح الخارجون من كلّ خسارة".. الذين اعتادوا الأكل على مختلف الموائد وأدمنوا التسكّع على مختلف الهوامش.. فهم يلبسون لكلّ حال لبوسها.. تلك طفيليات عالقة بالتراب سواء أأنبتَ الشجرةَ الطيّبةَ أم أنبتَ خبيثَ الشجرِ.. ومن طريف الأمر أنّ هؤلاء كانوا قبل الثورة اكثر الناس التصاقا بالصمت وصاروا بعدها أكثرهم ارتفاعا بالصوت...
***
لمّا فرّ الخليع تهاوى سور النظام النوفمبريّ البورقيبيّ من هول الصدمة.. وفي الوقت الذي كانت البلاد تجاهد للخلاص من لوثته وتسلّ روحَها من ثقل كثافته كان المحترفون والمنحرفون من خلاياه النائمة واليقِظة يتجهّزون للإجهاز عليها.. ووجدت الثورة نفسها أمام أمر واقع يوشكّ أن يردّ الماضي إليها.. وإذن فلم يكن أمامها غير التعاطي مع إكراهات أرغمها عليها أنصارها بسوء تقديرهم وخصومها بسوء تدبيرهم.. كان عليها أن تتعاطى مع الأوضاع بطريقة ذكيّة.. فما دام الحسم لم يتمّ في اللحظات الأولى فلا مناص من معركة سلاحُهَا الذكاءُ.. ومع تراكم الإكراهات لم يعد أمام الثورة من خيار إلاّ أن تتفاعل معها كما لو كانت تسير داخل حقل من الألغام.. تحاور وتناور وتفاوض وتوافق.. وإلاّ فإنّ البلاد تُستدرج إلى ضروب مخيفة من المجهول..
***
عندما تصدّت
حركة النهضة إلى إدارة الشأن العام صحبة المؤتمر من أجل الجمهوريّة والتكتّل من أجل العمل والحريات ألفت نفسها أمام غابة من الغيلان المتربصة بعضها ظاهر وبعضها خفيّ..
لم تجنح الفصائل المناوئه للسّلم الاجتماعيّ بل انساقت تقفو آثار جراح هزيمتها المدوّية التي لم تقرأ لها حسابا عشيّة انتخابات 23 أكتوبر 2011، فتلد الجراح رغبة عمياء في الانتقام.. وبمجرّد الإعلان عن النتائج شنّ الجرحى حربهم غير المقدّسة على الفصيل الذي تفوّق في انتخابات شهد الجميع بنزاهتها.. ومن ورائه كانت الحرب تصيب البلاد قاطبة وتهدّد بإحراق أخضر الوطن ويابسه...
- اشتغلت ماكينة الاتحاد العام التونسيّ للشغل تنفيذا لوعيد المرشد الأعلى عبيد البريكي.. فتعطّل العمل وضاع الإنتاج وقُطعت سبل الرزق على محتاجيها.. وتضاعفت في هذا المناخ مساحات الفساد وأخصبت "فراخ" الإفساد.. بل لقد اكتسب المفسدون مناعة يستعصي معها العلاج.. وبدل أن يضع الفاسدون أوزار حربهم على البلاد والعباد زادت ضراوتهم.. ومقابل ذلك كانت جهود الوطن تروح هدرا في معارك عبثيّة من بنات العداوات الغريزيّة...
- واستنفر إعلام "الرخص والبخس" جهوده الكامنة وجنوده الظاهرة.. فكان منه النواح والصراخ.. وانتشر خبراء المآتم يندبون هلى منابره الموبوءة حظّ البلاد ويبشّرون العباد بألوان السواد...
- وهرول عشّاق الحماية إلى حضن أمّهم الهاوية.. وارتمت السيدة سهير بلحسن في حجر الفرنسيس تستصرخهم أن يجرّدوا جيش انتقامهم ضدّ غزاة الصندوق الانتخابيّ وتحذّرهم من أن يكون الشعب التونسيّ مستطيعا بنفسه اليوم أو غدا إن هم لم يسمعوا النداء ولم يهبّوا لنجدة نواطير مزارعهم في برّ
تونس...
- وجاءت الاغتيالات لتزيد المشهد إرباكا.. وبدل أن يكون الدمّ عنصرا موحّدا للتونسيين للخروج من محنتهم اتُّخذ وسيلة لقهر الخصوم وابتزازهم.. بل صار أداة لتوجيه التّهم بلا دليل.. بل بلغ الأمر مدًى صار فيه أولياء الدم المراق محلّ كلّ ريبة من فرط تهافتهم.. واشتغلت غريزة الكراهية ضدّ فصيل سياسيّ وخصم ثقافيّ صحّ بالحساب والرؤية أنّه ربح الانتخابات ولم يستول على الحكم كما فعل السابقون وطمع اللاحقون...
- وأُقيم اعتصام الرحيل وجمع "الفصايل" الجريحة.. وأُسندت البطولة فيه "للروز بالفاكية".. وجلس المتخَمون جنب الجائعين والعرايا في حجور اللابسين.. وطرد شهرُ أوت الإفرنجي شهرَ رمضان العربيّ وانفصلت الدماء الحمراء عن الدماء السوداء في لحظة من التخمّر عجيبة على إيقاعات صاخبة عزفها النازيّون الجدد.. وكان نصير أوت شاعرا من صفوف النداء.. وكان مصنّف الدماء صاحب مقولة "دمنا أحمر ودمهم أسود" الشهيرة.. كان من قيادات النداء.. ورقص نوّاب الديمقراطيّة على الإيقاعات التجمّعيّة في لحظة كيمياء حداثية لم يشهد لها التاريخ مثيلا.. واعتصمت الأصفار بمهديّ منتَظر اسمه النداء.. واختلط حابل الحداثيين بنابل النظام الرجعيّ القديم.. وبعد أن أكل آكِلُهم حتّى ذهب عقله، من فرط ما أكل، وجحظت عينه، وسكر، وسدر، وانبهر، وتربّد وجهُه، وعصب ولم يسمع، ولم يبصر.. بعد كلّ ذلك صاح صائحُهم وأذّنَ فاضحُهم ذات "ستّه أوت ألفين وثلتّاش" "لا روز لا بحرْ لا عوم... والنهضة تطيح اليوم".. خلطة كيميائيّة عجيبة تداعت عناصرُها لتكوين جيش عرمرم شبيه به جيش الروم الذي أقبل لحرب سيف الدولة ذات قصيدة لسيّد الشعراء أبي الطيب:
"تجمَّعَ فيه كلُّ لَسنٍ وأمَّةٍ
*** فما تُفهِمُ الحُدَّاثَ إلاّ التراجمُ"...
- ولمّا تقدّم بعضُ نوّاب المجلس الوطنيّ التأسيسيّ بمشروع قانون يستهدف التحصين السياسي للثورة "لسدّ الطريق أمام محاولات إحياء رميم الفساد والاستبداد.. قانون أريد له أن يكون عقابا سياسيّا على جرائم سياسية".. كان لذاك المشروع فعل السحر إذ نطق بمقتضاه الخُرس وحُلّت عُقَدُ من لم يُعرَف له لسان بين التونسيين.. وتداعى الخبراءُ والعمداءُ وقالوا في المشروع ما يقال وما لا يقال.. وتباكَوا وتشاكَوا.. ورفعوا صوتا واحدا موحّدًا "لن تمرّوا" واستأنف القوم حرائقهم بين الجبل والسهل ووضعوا عصيّهم في عجلة الوطن حتّى يُخسَف قمرُه فلا يكون ليوم "ثمنية وعشرين رَمَضان ألف وأربعميا وأربعة وثلاثين هجري" ما بعدَه...
- ولمّا خان عبدُ السوء في مصر سيّدَه كان له بين نخبة تونس تمهيدُ.. وهلّل جمعُ الحالمين لقائد الانقلاب المصريّ في استعادة لتلك الدمعة الساقطة عند حجور الفرنسيس.. وفرح الديمقراطيون جدّا بحجر السيسي وودّوا الوقوعَ تحت حذائه.. واحتفلت منابرهم بموهوم عساكرهم يستدعون ضجيجَها وهرعوا إلى مباخرهم يُطلقون عجيجَها.. وشماتة في الأعادي رقصوا على إيقاع أغنية "تسلم الأيادي".. وقالوا: جاء الخلاصُ من حيث ندري ولا ندري.. وما كان لهم في حقيقة التاريخ من خلاص.. إذ أصابهم الحوار الوطنيّ بما يشبه الشدّ العضلي.. وذهبت بطنتهم بفطنتهم.. ولمّا رُفعت الأقلامُ وجفّت الصحف وجاء المهدي جمعة بالتوافق تعلّل كبيرُهم بالغداء ولعن في سرّه الشراهة والأعداء..
- اليوم عادوا يتعهّدون ذكاءهم بعد نهاية الحفل وتفرّق المدعوّين وخلوّ الموائد من دَسمها.. قالوا: ههنا دسَم.. واقبلوا على الثورة كما لم يتركوها.. عادوا إلى التباكي عليها.. وتناسوا طعام الخلود "الروز بالفاكية".. بل عمدوا للأواني يصبّونها وإلى الأعراض يسبّونها وتظاهروا بعداوتهم للنظام البائد وبانتصارهم للثورة.. وأرغوا وأزبدوا.. ونادوا بالتحصين.. وتباكوا على الحسين بعد أن شبعوا نومًا في حجر "يزيد"..
- لقد بات الذكاء مدار المعركة.. وقد ذهب روز التجمّع القبيح و"فاكيته" بذكاء هؤلاء وصاروا عرايا لأنّ مال الفساد لا يطعم من جوع ولا يكسو من عراء... فلقد وَسْوَسَ لَهُم شَيْطَانُ التجمّع لِيُبْدِيَ لَهُم مَا وُورِيَ عَنْهُمم مِنْ سَوْآتِهِم.. وأغواهم بروزه وبفاكيته.. فَلَمَّا ألمّ بهم الشبعُ بَدَتْ لَهُم سَوْآتُهُم وَطَفِقَوا يَخْصِفَون عَلَيْهِم مِنْ وَرَقِ الثورة.. ولكن المتغطّي بلباس التجمَع عريان.. عريان.. عريان... فعليكم يا معشر الحفاة العراة بـ"أمينة فيمن".. عرفت كيف تورد ناقتها.. فأوردوا نوقكم إلى حيث أوردت.. فلا عاش في تونس من خانها...