في ظل غياب السلطة التشريعية، تقدمت الحكومة
المصرية بمشروع قانون
الموازنة للعام المالي 2014/2015، للرئيس المؤقت ليعتمدها، وتأتي أهمية الموازنة هذا العام من كونها تحتوى على حزمة من الإصلاحات، أو الإجراءات الممهدة للاتفاق مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض يساعد على ردم الفجوة التمويلية، التي تعاني منها مصر منذ سنوات.
والمثير للغرابة أن موازنة العام الحالي 2013/ 2014، يقدر العجز فيها -حسب تصريحات وزير المالي هاني دميان- بنحو 12%، وسيتحقق هذا العجز في ظل مساعدات خارجية تاريخية لمصر، بلغت 20 مليار دولار، فضلًا عن تسييل وديعة حكومية بنحو 8.3 مليار دولار. فكيف سيكون عجز الموازنة بحدود 12% بالموازنة الجديدة، في ظل تقديرات للمنح الخارجية لا يزيد عن 2.5 مليار دولار، ووفر متوقع بنفقات الموازنة يقدر بنحو 40 مليار جنيه، منها 30 مليار نتيجة تخفيض دعم الطاقة، و10 مليار نتيجة فرض ضرائب جديدة؟.
الأعباء الاجتماعية
لعل المحور الأكثر أهمية في تناول الموازنة، هو الأبعاد الاجتماعية المترتبة على تنفيذ الحكومة لما وعدت به من إصلاحات، وبخاصة أن البيانات المنشورة عن أداء
الاقتصاد المصري مؤخرًا، توضح اتساع دائرة الفقر لتضم نسبة 40% من الشعب المصري، وأن معدلات البطالة تصل إلى 13.5%، وأن التضخم لا يزال بحدود 10%، وإن كانت الأرقام الحقيقية للتضخم قد تكون ضعف هذا الرقم.
ونرى أنه في حالة تطبيق الإجراءات المنتظرة بالموازنة، من تخفيض لدعم الطاقة والإسكان الاجتماعي وغير ذلك من بنود الدعم، أن تكون هناك أعباء اجتماعية جديدة، من شأنها أن تعقد الوضع في الشارع المصري، وبخاصة أن حالة عدم الاستقرار السياسي والأمني لازالت قائمة، ولم تنته بعد.
موجات تضخمية
تتضمن الإجراءات الإصلاحية بمشروع الموازنة الجديد، تخفيض دعم الطاقة بنحو 30 مليار جنيه، ليصبح 104 مليار جنيه مصري، بعد أن كان 134 مليار جنيه في موازنة 2013/ 2014، والقضية ليست عند هذا الحد، بل القضية في تبعات ما سيترتب على هذه الخطوة من آثار، لتخفيض دعم الطاقة، وكذلك الخطوات التالية في هذا الدعم، حيث تنوي الحكومة تخفيض هذا الدعم سنويًا بنحو 30 مليار جنيه، بحيث تتخلص من الجزء الأكبر منه على مدار أربع سنوات.
وهذا الاستنتاج لعزم الحكومة على التخلص من دعم الطاقة، منشور على موقع وزارة المالية في شكل مقترح للحوار المجتمعي لدعم الطاقة، وهو تصدير من قبل الوزارة للمجتمع، وكأنه أتى نتيجة حوار، وليس قرارا للحكومة.
وقد ذكر بيان وزارة المالية عن مشروع الموازنة، أن إصلاح منظومة دعم الطاقة سيتم دون المساس بالفقراء، وهو أمر يحتاج إلى بيان، للتعرف على هذه الآليات، التي سترفع أسعار سلع استراتيجية مثل الوقود، دون أن تؤثر على الفقراء.
إذا كانت تخفيض دعم الطاقة سيكون على حساب الصناعات المختلفة، لتحصل على أسعار الوقود بأعلى مما هي عليه الآن، فسوف ينعكس هذا الارتفاع على أسعار السلع والمنتجات بالطبع، وهو ما يعني موجة تضخمية جديدة، تضاف لموجات تضخمية ممتدة الأثر نتيجة لطباعة النقود خلال الفترة الماضية، ومن جانب آخر امتداد للتضخم المستورد، حيث تعتمد مصر على توفير نحو 60% من احتياجاتها من الغذاء من الخارج، ومؤخرًا أصبحت مصر مستوردًا صافيًا للوقود.
أما إذا كان تخفيض دعم الطاقة سيجرى من خلال تحريك أسعار الوقود بالنسبة للأفراد، فإن تأثير هذه الخطوة سيظهر في نفس اليوم الذي سترتفع فيه أسعار الوقود، بحيث يشمل العديد من السلع والخدمات. ولا يحتاج الأمر إلى مزيد من البيان، فارتفاع أسعار الوقود يعني ارتفاع تكلفة النقل للسلع والأفراد، لتستمر متوالية التضخم في باقي مناحي المعيشة بمصر.
شريحة جديدة من الفقراء
في ضوء ما نتوقعه من موجات تضخمية، نتيجة الإصلاحات المرتقبة بالموازنة المصرية، فإن الشرائح الدنيا من الطبقة المتوسطة بمصر مرشحة للانحدار للانضمام لشريحة الفقراء، ولعل الحكومة المصرية تكرر أخطاء تجربة الإصلاح الاقتصادي تحت رعاية البنك والصندوق الدوليين في مطلع تسعينيات القرن الماضي.
فتجربة الدعم النقدي التي أشار إليها بيان وزارة المالية، وأنها ستطبق في القرى الأكثر فقرًا، وما يستتبع ذلك من صرف مبالغ قدرت بنحو من 300-500 جنيه مصري، تحتاج إلى مزيد من الدراسة، وبخاصة أن الفقر ليس حكرًا على هذه القرى، فهذه القرى كما سماها مسح البنك الدولي منذ سنوات، القرى الأكثر فقرًا، وليست الفقيرة فحسب.
وإذا كانت الحكومة سوف تشمل بالرعاية بعض الأسر الأشد فقرًا، فماذا ستفعل في باقي الأسر، وما هي التغطية أو الحماية الاجتماعية، التي ستوفرها الحكومة للفقراء الجدد، الذي أشرنا إليهم، من الشرائح الدنيا من الطبقة المتوسطة.
فتوفير مبلغ 500 جنيه وهو الحد الأقصى الذي تم الحديث عن تقديمه للأسر الأشد فقرًا، يلبي الاحتياجات شديدة الضرورة في ظل الأسعار الحالية، فما بالنا بقيمة هذا الدعم في ظل تحريك الأسعار؟.
إن تطبيق الدعم النقدي بمصر، يفتقد إلى أهم أدواته، وهو وجود قاعدة بيانات قوية ومرنة، عن واقع الفقراء، ومدى احتياجاتهم، وطبيعة الدعم المطلوب، وهل سيتم التفاعل مع كل من يتقدم بطلب عبر الوسائل الالكترونية للحصول على الدعم النقدي؟. وما هي معايير الاستحقاق، في ظل ضبابية المعلومات في المجتمع المصري.
غياب الحماية الاجتماعية
لم تعرف بعد المجتمعات النامية ومن بينها مصر تطبيقًا جادًا لما يسمى بالحماية الاجتماعية، فكل المتاح هو فقط برامج للتأمين الاجتماعي، أو المعاشات، أو التأمين الصحي، لمن يدفعون مقابل، أو نظير اشتراك، وباقي من هم خارج هذه البرامج يعتمدون على ما يسمى الحماية الأسرية، لذلك غالبية كبار السن، أو المرضى خارج نظام التأمين الصحي يعتمدون على أبنائهم وذويهم، وليس على البرامج الحكومية المفترض وجودها لتغطية هذه الحالات.
والحماية الاجتماعية لا تقتصر فقط على كبار السن والمرضى، ولكنها تشمل كذلك العاطلين عن العمل، وهنا لابد من أن نذكر تجربة التسعينيات ونشأة الصندوق الاجتماعي للتنمية، وذكر في حينه أن مهمة الصندوق تفادي الآثار الاجتماعية السلبية لتطبيق برنامج الإصلاح الاقتصادي، حيث تم تحرير سعر الفائدة، وسعر الصرف، وتحرير التجارة الخارجية، وتنفيذ برنامج الخصخصة، تحت رعاية البند والصندوق الدوليين.
ولكن للأسف لم يحقق الصندوق الاجتماعي الهدف من وجوده، وتحول إلى مجرد مؤسسة مالية تحترف تقديم القروض لمن يطلبها، وتبع الصندوق مجموعة من الجمعيات المتخصصة في الإقراض.
ولم يكن للصندوق ولا لهذه الجمعيات من دور في تخفيض معدلات الفقر، أو مكافحة البطالة، بل تم تدوير قروض الصندوق الاجتماعي للتنمية كما تم من قبل مع بنك التنمية والائتمان الزراعي.
القطاع غير المنظم
نحن أمام حقيقة واقعة، وهي القطاع غير المنظم في مصر، حيث يقدر البعض مساهمة هذا القطاع بنحو 40% من الناتج المحلي الإجمالي، وهذا القطاع لديه عدد كبير من العاملين، الذين لا توجد عنهم قاعدة بيانات تبين أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية. فأحد الدراسات المسحية تقدر مساهمة هذا القطاع في التشغيل بنحو 72% من الداخلين الجدد لسوق العمل بمصر، والمقدر عددهم بنحو 750 ألف فرد سنويًا.
وإذا كان هذا القطاع بهذا الحجم من الأداء الاقتصادي، فما هي أولويات الحكومة في التعامل معه، من خلال برامج الدعم، وباقي منظومة الإصلاح، فمثلًا اتخذت الحكومة منذ شهور، تطبيق الحد الأدنى للدخل للعاملين بها بحيث لا يقل الدخل الشهري عن 1200 جنيه مصري، ولكنها عجزت حتى الآن عن تطبيق هذا الأمر على القطاع الخاص، وبالتالي فإن هناك شريحة كبيرة لم تضعها الحكومة في حساباتها، وسيتضررون كثيرا من أي إجراءات تزيد الأعباء في المجتمع.
فضلًا عن غياب كثير من الحقوق للعاملين بهذا القطاع من تأمينات وضرائب، وحقوق عمل كثيرة تتعلق ببيئة وظروف العمل، أو ما يسمى بالعمل اللائق.
في الختام نستطيع القول، بأن الحكومة قد تستطيع أن تخفض بعضًا من نفقاتها، في مجالات الدعم، ولكنها ستواجه العديد من المشكلات في ظل تأجيل الإصلاح لباقي بنود الموازنة، مثل الأجور، التي تستوعب نحو 25% من مخصصات الإنفاق العام بالموازنة، وقلصت تنفيذ الحد الأقصى للأجور، وفرغته من مضمونه، باستثناءات القطاعات المالية والقضاء والبترول وغير ذلك.
وسوف ينتظر الفقراء المزيد من الأعباء خلال الفترة المقبلة، في ظل الظروف المالية الخانقة التي تمر بها مصر، حتى ولو نجحت الحكومة في الحصول على قرض صندوق النقد الدولي، الذي سيكون البوابة الرسمية لإطلاق يد الحكومة في الاقتراض الخارجي بعد أن ضاقت ذرعًا بالاقتراض الداخلي وأعبائه وتداعياته السلبية.