كان الجنرال ديغول يقول: "بعد الألب لا توجد أوروبا"؛ وهذا استثناء لإسبانيا لعوامل تبدأ بالثقافة والسياسة، ولا تتوقف عند التاريخ والسحنة. ولعل الجنرال فرانكو الذي كان "رئيس الدولة" في المملكة الإسبانية، شكل جدارا عازلا بين أوروبا الديمقراطية، بممالكها وجمهورياتها، وبين إسبانيا التي كانت تراوح بين حرب أهلية طاحنة أتت على أرواح مليون إسباني، وبين استقرار تحت حكم العسكر.
بوفاة فرانكو، الملك غير المتوج، العام 1975، والذي نذر حياته للدفاع عن الملكية ومحاربة الجمهوريين، تولى ولي العهد
خوان كارلوس الملك في بلد مفكك ومنقسم وفقير. فإسبانيا تاريخيا كانت "ممالك" لا مملكة، وأقاليمها المنوعة عرقيا ولغويا لا يجمعها إلا الكاثوليكية، ولديها ميول انفصالية ما تزال منها بقية؛ "إيتا" في إقليم الباسك. وفوق ذلك انقسام سياسي حاد تغذيه الحرب الباردة.
لا شيء يعبر عن إسبانيا فرانكو مثل لوحة بيكاسو الأسطورة جورنيكا، التي جسدت كيف يستبيح الطاغية شعبه، وكيف يتعاون مع النازيين لقصف بلده؛ وكأنه بشار الأسد في حلفه مع إيران وروسيا ضد السوريين.
الملك الشاب الذكي الذي كان ممزقا بين والده الملك الهارب والجنرال الذي حافظ على الملك، اختار طريق الممالك الدستورية في أوروبا، ولم تبهره صورة الجنرال الذي تزينه نياشين انتصارات حقيقية في الحرب العالمية الثانية والحرب الأهلية الإسبانية التي تقاطر فيها على حربه يسار العالم من أميركا وأوروبا. في تلك الحرب شارك الروائي إرنست همنغواي وألف رائعته "لمن تقرع الأجراس"، كما أعدم خلالها شاعر إسبانيا لوركا، في غرناطة.
رسم الملك العظيم "جورنيكا" معاكسة. استثمر في الظروف الدولية والإقليمية والمحلية، لتحقيق المصالحة الوطنية والتحول الديمقراطي. للملك أخطاء، وخصوصا في موضوع النزاهة، لكن ذلك لا يقلل من تاريخية فعله. ومن المفارقات أنه يتنحى في يوم تنصيب عبدالفتاح
السيسي رئيساً لمصر، والذي لم يستفد مطلقا من الدرس الإسباني. فشيطنة الإخوان المسلمين في
مصر اليوم تعادل شيطنة الشيوعيين في تلك الحقبة، إذ اعتبروا إرهابيين، وكذلك محاكمات اليساريين الأميركيين العائدين من إسبانيا والتي تشبه ما شهده العالم العربي من محاكمات "الأفغان العرب". خوان كارلوس انقلب على الجيش عندما انقلب الجيش على الديمقراطية العام 1982. وقتها، اعتبر العسكر البرلمان ملاذا للقوى اليسارية المعادية للملكية، لكن الملك خاطب قائد الانقلاب الذي احتجز النواب وقال له بلغة صارمة: أنا القائد الأعلى؛ أطالبك بتسليم نفسك.
العالم العربي أمام مفترق طريق؛ إما أن يكرر تجربة الحرب الأهلية الإسبانية بناء على انقسامات سياسية أو ثقافية أو عرقية، وإما أن يكرر تجربة الملك خوان كارلوس في المصالحة والديمقراطية. وقراءة بسيطة لخريطة العالم وتاريخه تؤكد أن الديمقراطية تعني الرفاه والتقدم والوحدة، سواء في الأنظمة الملكية أم الجمهورية، فيما يعني الاستبداد، في المقابل، الفقر والرجعية والتفكك. لنقرأ الفرق بين الهند التي حكمها حزب ديني بالانتخابات، وباكستان التي حكمها جنرالات، مع ملاحظة أن عسكر باكستان وصلوا للقنبلة النووية، وانتصروا على الاتحاد السوفيتي في أفغانستان. كما أن الفرق واضح في تركيا أيضا، ودول أميركا اللاتينية.
في يوم تنحي الملك خوان كارلوس وتنصيب السيسي، نختار الملك الذي انقلب على حكم الجنرالات.