مرت هذا الأسبوع الذكرى الثالثة والثلاثون للإعلان عن
حركة النهضة وريثة حركة الاتجاه الإسلامي وللإعلان قصة...
شهدت نهاية سنة 1980 أولى المحن التي تعرضت لها الجماعة الاسلامية (سلف الاتجاه الاسلامي والنهضة) ففي صبيحة احد أيام ديسمبر من تلك السنة القى البوليس السياسي القبض على احد قيادات الحركة وقد كان حاملا لحقيبة تحتوي كل اسرار التنظيم الاسلامي الذي اشتغل سريا لمدة تزيد على الخمس سنوات. وقد سبب الانكشاف صدمة مزدوجة في اعلى هرم السلطة السياسية إذ اكتشف
بورقيبة كيف استطاعت مجموعة من الشباب كان ينظر اليهم على أنهم مجموعة من الدراويش التخفي عن ذلك الجهاز الأمني الرهيب الذي قسم ظهر كل المعارضات:
اليوسفية واليسارية والنقابية ثم كيف نجحت الايديولوجية الدينية التي ظُن ان تيارات الحداثوية العاتية قد عصفت بها الى غير رجعة في استقطاب مجموعات الشباب الجامعي والتلمذي بأعداد كبيرة؟
تفطن بورقيبة بغريزته السياسية المتقدة إلى أنّه يواجه في هذا التنظيم أهم تحد لدولته التي بناها على اساس من استئثار تيار ايديولوجي مجسدا في حزب واحد بكل مقدرات البلاد ومستقبلها.. فعزم على استئصال هذه النبتة في مهدها..
في الجهة الاخرى جاء الانكشاف في وقت قاتل للجماعة الاسلامية الناشئة حيث كانت اجهزة الدولة قد فرغت لتوها من القضاء على الحركة النقابية التي نظمت أول إضراب عام في تاريخ دولة الاستقلال ليتحول يوم 26 جانفي 1978 الى انتفاضة عمالية كبرى تم قمعها ب الدم وانتهت بمحاكمات قاسية للقيادات النقابية الكبرى وتدجين أكبر المنظمات الوطنية.
كان «التنين» في عنفوانه يطلب مزيدا من الدماء خاصة وقد كان على رأس جهازه الأمني واحدا من الطامحين إلى وراثة الدولة البورقيبية وهو ما سيتحقق له بعد سبع سنوات فقط فمثلت الحملة على الحركة الاسلامية فرصة مناسبة لإعادة توحيد الصف الذي قسمته انتفاضة العمال وللقضاء نهائيا على الآخر الناشئ.
كان الوعي داخل مجموعة الشباب الاسلامي حادا بكل هذه المعطيات ولكن الثقافة التنظيمية والسياسية السائدة لم تسعفها بغير المعالجات التنظيمية فتخلت القيادة المنكشفة عن موقعها لمجموعة من الشباب الجامعي سريعا ما دخلت في مواجهة مفتوحة مع اجهزة الدولة في الجامعة والثانويات في تقليد لفعاليات الثورة الايرانية فلم تزد الانكشاف الا اتساعا والدولة الا تصميما على الاستئصال.
في هذه الظروف دفع
راشد الغنوشي الذي كان امير التنظيم المنكشف واكبر اعضاء القيادة سنا بفكرة اساسها ليس منع المواجهة ولكن رفع كلفتها السياسية الى مستوى لا تحتمله الدولة او يحقق للحركة مكاسب سياسية تخفف من وقع الضربة التنظيمية وفي كل الاحوال يجعل عملية الاستئصال مستحيلة.
اقترح الغنوشي على رفاقه ان تتحول الجماعة الاسلامية بسرعة الى حزب سياسي مغتنمة فرصة التحولات التي كانت تحدث صلب النظام البورقيبي اثر الهجوم العسكري الذي قامت به مجموعة من اليوسفيين على مدينة قفصة في الجنوب الغربي مدعومة من النظام الليبي والتي كان من تداعياتها إقالة رئيس الوزراء الهادي نويرة وفتح المجال لتكوين الاحزاب السياسية. كانت الفكرة غريبة وصعبة الاستيعاب في ظل الثقافة الاخوانية التقليدية السائدة المتوجسة من الديمقراطية والرافضة وقتها فكرة التداول على السلطة بله الدولة المدنية.
اقتضى الامر من الامير الشاب ورفاقه المقتنعين بالفكرة جهدا كبيرا لاقناع الصف الإسلامي بتنزيلها واقعا بلغ حد تنظيم اول استفتاء شامل اسفر عن توافق واسع حول المبادرة فقدمت الجماعة الاسلامية التي تحولت الى حركة سياسية اسمها حركة الاتجاه الاسلامي بطلب التأشيرة القانونية للنشاط الحزبي.
لم تمنع مبادرة الغنوشي الهجمة ولكن خففت من تداعياتها كثيرا حيث تحولت من عملية استئصال لتنظيم سري ديني الى هجوم على حركة سياسية عبرت عن استعدادها للدخول تحت مظلة الشرعية القانونية والقبول بقواعد اللعبة السياسية الديمقراطية وعدم المساس بما تعتبره الدولة البورقيبية مكاسب من مثل حقوق النساء. وقد سبب ذلك حرجا كبيرا لاجهزة الدولة وراسها داخليا وخارجيا.. ولكن النتيجة الاهم لهذه الفكرة كانت ولادة ما يمكن اعتباره رائدة حركات الاسلام السياسي في نسختها الحديثة القابلة للتفاعل بين الفكرة الاسلامية والدولة في نسختها التي انتجتها حركات الاستقلال الوطني وستمثل حركة الاتجاه الاسلامي ثم النهضة على مدى الثلاثين سنة التالية القاطرة الفكرية للحركات الاسلامية الى عالم الديمقراطية والقبول بمكتسبات الحداثة وتسكينها في داخل الايديولوجية الاسلامية واثمر ذلك ابتداء من تسعينات القرن الماضي مصالحات بين الاسلاميين وعالم السياسة وصلت في بعض البلاد الى المشاركة في الحكم وبلغت ذروة سنامها في تركيا حيث انتجت تجربة اعتمدت اساسا في تأصيل نفسها على كتابات الغنوشي التي ترجمت في جلها الى اللغة التركية وذلك بعد سنوات طويلة من سوء الفهم واعتبار «النهضة» من الحركات المتسرعة او المبالغة في التحرر احيانا في الفضاء الاسلامي.