أراد البورقيبيون أن يغرسوا في أذهاننا مسلمة مفادها أن بورقيبة الزعيم الاستشرافي أفلح في غرس فكرة الدولة في أذهان مواطنيه الجدد وعلمهم وهو المعلم أن يتعايشوا ضمن كيان سياسي مدني يقوم على الانخراط الفعال لا الطاعة العمياء فأخرجهم من الرعايا إلى المواطنين.
لكن الثورة كشفت بسرعة عجيبة أن هذا الخطاب ليس إلا إيهاما ايديولوجيا، فأغلب شرائح المجتمع ومثقفيه كشفت ممارسات مخالفة لقواعد التعايش المواطني والكفر بالدولة التي هي أبعد من الجهاز السياسي مؤقتا. ويمكن معاينة بعض وجوه من ذلك.
ممارسات المواطن المجهول
السيد (x) ساكن الحواضر في الغالب رجل متعلم وينتمي اجتماعيا إلى الطبقة الوسطى ويختلف إلى أقوام ذوي ثقافة واسعة رجل عارف بقواعد التعايش المدني ومطلع على كثير من مدن العالم بما يمكنه من المقارنة، ولكنه يرمى مزابله على قارعة الطريق، ويكتفي أن يكون بيته نظيفا. هو يعرف أن ينتقد الاجهزة المعنية بل يقدم لها الدروس.
لكنه لا يتوانى عن رمي مزبلته الخاصة في شارع الجيران.
تلقى السيد(x) دروسا كثيرة في مدرسته ضمن التربية المدنية التي كانت وطنية، لكنه لم يمر من الدرس إلى الممارسة. إنه سائق قليلا ما يحترم إشارة المرور وقليلا ما ينتظم في طابور انتظار وقليلا ما يسلم للآخرين بحق عليه في أبسط التفاصيل.
لماذا؟ ليس من إجابة عليمة نهائية (خصوصا في فقر الدراسات العلمية حول الشخصية القاعدية) لكن السؤال الأوسع مدى للنقاش هل يؤمن هذاالسيد انه يعيش في دولة؟ وأن من معه لهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات؟ هل انتمى هذا الكائن العجيب فعلا لدولة؟ أين أثر لدرس الزعيم المعلم في المواطن الجديد؟
ممارسات السياسي المحترف
يُعْذَر للمواطن بعض فوضاه، لكن هل دلت ممارسات السياسي المحترف على إيمان حقيقي بالدولة.
هناك وهم وجود حياة سياسية متطورة في
تونس، ولكن ممارسات
الأحزاب والجمعيات تكشف أن العمل يقوم على ولاء عصبي لأشخاص ومذاهب فكرية أكثر مما يقوم على تصور كامل لدور المدني في السياسي و مجالات تقاطعهما من أجل ترسيخ المجتمع السياسي وتجلية قواعد التعايش البناء.
ممارسات الحزب الواحد (حزب الزعيم وأداته للإخضاع) انتجت نخبا سياسية ونقابية وفاعلين مدنيين بالتسمية، ولكن ممارساتهم في السياسية تقوم على استجلاب المنفعة بالنصرة والتعصب للشخص أو للجهة الجغرافية، لذلك عندما تضيق المنفعة يتشتت الجمع فلا ترى إلا أحزابا تتشتت وتعيد إنتاج نفسها وتتصاغر.
ومن أعاجيب دولة الزعيم المعلم أن العصبية الجهوية لا تزال قاهرة في التوليف السياسي وتنتج ضدها على نفس القاعدة.
فعندما تبين أن عصبية أهل الجنوب (وهو ليس كيانا سياسيا مدنيا موحدا) حازت غنيمة لم يرد عليها بفكرة الدولة الأسمى من الجهة، بل بإثارة العصبية القديمة إياها، فلما وضع السيد مهدي جمعة مكان السيد العريض سمعنا من أفواه كثيرة قول العصبية (عاد الدر إلى معدنه).
وتشتغل الأحزاب التي حررتها الثورة من ربقة الدكتاتورية مع البشر على أنهم قطعان انتخابية، يمكن شراء ذممها بالغذاء.
إنها تمارس السياسة مع بشر ما قبل المواطنة، تماما كما اعتبرهم الزعيم المعلم غبارا من البشر يمكن استعمالهم لترسيخ زعامة في التاريخ لفرد أحد صمد قد يكون ولد لكنه لم يلد.
نقابات من قطاع الطرق
الأمر نفسه في النقابات فالصراع فيها إما عصبي جهوي (قرنقة فرحات حشاد مقابل قفصة أحمد التليلي) أو عصبي ايديولوجي (تجمعي في وجه يساري أو يساري في وجه اسلامي) ويغيب التحشيد على برامج ضمن بناء الدولة الشاملة للجميع بل تعصب واستقواء بالشبيه والمطابق من أجل التمركز في سياق تحصيل منفعة.
ويعتبر الإضراب الإداري لرجال التعليم في كل المستويات والمتمثل في حجز أعداد الممتحنين والعمل على إلغاء الامتحانات الوطنية والتهديد بإفشال العام التعليمي من أجل تحصيل مكاسب مادية وليس إصلاح التعليم العمومي، كما طالب الثورة بذلك أكبر علامة على أن هذا النقابات تعمل وتعيش في ما قبل الدولة، وإن كانت تتظاهر بالعمل المدني، ولكن جوهر عمليها قطع طريق لا ينقصه إلا السلاح الناري فمشهد الميليشيات المسلحة بالهراوات الغليظة لن ينسى من الذاكرة.
الغول المدني
بعد الثورة يقول الجميع إن فشل الدولة (ويعنون النظام السياسي) ناتج عن تغول المجتمع المدني لكن هذه العبارة تحمل تبريرا سخيفا، فالمجتمع المدني لا يكون مدنيا إلا بقيامه ضد الغول ولا يحل محله.
كيف يكون مجتمعا مدنيا ويتغول؟ إنها مفارقة التبرير الغريزي للحصول على غنيمة قطاعية أو رمزية أو صيتا مؤقتا لفرد أو منظمة تمهيد للمزيد.
يفترض بحسب ما علمناه من دروس الفلسفة السياسية والتعايش الأخلاقي والثقافي أن يقوم المجتمع ضد النظام السياسي معدلا ومعترضا وناصحا في موضع النصيحة، وأن يقوم ضد غلو المدني نفسه لكي يظل مدنيا ومنطلقه في ذلك من إيمان بالدولة لا ككيان سياسي عابر، بل كوجود محدد للوجود.
لماذا يتغوَّل المدني في الحالة التونسية بعد ثورة قيل أنها مدنية؟
لأنه ببساطة ليس مدنيا بعد، وإن ادعى، بل عصبيات تخرج من التنافس إلى التقاتل المفضي إلى خراب الدولة نفسها ونقض أطرافها.
واعتقد أنه يجب أن نقرأ مطالب النقابات المختلفة مثل الاضرابات المدنية في التعليم.
كما أنه يجب أن نقرأ الاستعانة بالأجنبي على شريك الوطن كشكل من الخيانة السياسية، والتي لم تؤمن ولم تمارس قواعد التعايش المدني (الدولتي). إنه الغنم ضمن فكر ما قبل الدولة.
ولو باستجداء البرلمان الأوربي لحل المجلس المنتخب وتحريض مؤسسات الإقراض الدولية على إحداث تغيير سياسي في الداخل بتفليس الدولة لإسقاط الحكومة.
تكشف أطنان المزابل في شوارع تونس حقيقة فاجعة تضاهيها إلا المزبلة الحزبية التي تستعد للانتخابات.
مازال الكثير من غبار البشر البورقيبي لم يرتق إلى الدولة.