كتب سرمد الطائي: اسأل الاصدقاء هذه الايام: نحن الذين فتحنا عيوننا على كل فصول الموت منذ الطفولة، ولم نهنأ بأي استراحة على الاطلاق.. لماذا لم نتعود على التعايش مع الانهيار، وما بال قلوبنا تعتصر حد الاختناق ونحن نغوص في هذا المنحدر الجديد؟
ربما كان للامر صلة عاطفية بفكرة العراق الموحد، التي تواجه هذه المرة اصعب اختباراتها على البقاء، لكن يبدو لي ان الاكثر اثارة للحزن، هو عدم قدرة حتى الاصدقاء، على تحمل بعضهم. ولدي معارف كثيرون ظلوا يتناقشون بحدة ويتعاركون ايضا طوال سنوات، دون ان يعلنوا القطيعة مع بعض، غير انهم في هذه الازمة، لم يكتفوا بالعراك "الطبيعي" بل تبادلوا اقوى اوصاف الخيانة، وتبرأوا من بعض، وكأنهم صاروا يشبهون الطبقة السياسية العاجزة، التي اقتنع جزء منها على الاقل بأن الكلاشنكوف هي الفيصل، متناسين اننا في زمان لا يسمح لطرف بالانتصار على الطرف الاخر وسحقه، وسنظل حين تغيب السياسة، ومهما تحدثنا عن ضرورات الدفاع عن النفس او الثورة، مسرحا تلعب فيه الارادات الخارجية، تسليحا او إفقارا.
عجز بعض معارفنا عن مواصلة النقاش، واغلاقهم للنوافذ، هو الذي يميز ازمتنا هذه عن كل ما سبقها منذ الثمانينات، وهي تكشف اننا بحاجة الى العثور على طريق يجعلنا نؤمن بالسياسة، كفن تفاوضي، له قواعد تشغيل وإعداد وإصلاح. لكن امتلاك ايمان كهذا، ليس سهلاً، ولا توفره حتى النوايا الطيبة وسلامة الفطرة.
ولذلك فليست عبارة عراقية مفهومة بما فيه الكفاية تلك التي نرددها هذه الايام وتفيد بأن "الحل العسكري لن يستقيم الا اذا رافقته حلول سياسية". اذ من اين يأتي الحل السياسي، فلولا نقص الخبرة السياسية في البلاد، لما وجدنا المسلحين يتجولون بحرية على الطريق الدولي الواصل بين نينوى وبغداد.
البلدان التي تتوفر فيها خبرة سياسية كافية، لا تشهد اندلاع ازمات بمستوى الانهيار، وحين نقول ان العراق تنقصه الخبرة السياسية، فاننا لا نعني عدم وجود رجال ونساء يمتلكون الخبرات التفاوضية الحديثة، التي تكون بديلة عن حروب القبائل، بل نقصد بالطبع نقصا كبيرا في هذا النوع من العراقيين، اي ان عدد الحكماء هنا لا يكفي لموازنة كميات الاندفاع العاطفي المجنونة.
لكننا سنكون امام تساؤل مركزي آخر: لماذا تمتلك بعض البلاد خبرة سياسية كافية للتسوية مع الداخل والخارج، بينما لا توجد مثل هذه الخبرة في بلاد اخرى؟ هل يشبه قدرة بلد على صناعة طائرة، وعجز بلد اخر عن ذلك؟ ام ان الامر يعود الى نوع تاريخ الصراع، فهناك شعوب غاصت في الدماء فترات طويلة ثم خرجت وهي معبأة بخبرات تلافي الموت، ووجدت طريقا لتجنب النزاع الدموي قدر الامكان. بينما يمكن القول بأسف ان العراقيين ماتوا بما فيه الكفاية دون ان تتراكم لديهم مثل تلك المهارات!
لا ينفع التبرير كثيرا الا بقدر ما يكشف لنا ونحن ندخل المستوى الجديد من الكارثة، اهمية ان نفكر بفنون السياسة ونحن نتفرج على
فنون الموت. اي ان نحاول استثمار موتنا الحالي، لمنع موت قادم. وفنون السياسة ليست تعلماً فطرياً، بل هي علم قائم بحد ذاته، وخبرات اكاديمية ومواهب حظيت بالتطوير، وهي حقول متنوعة، ففي مجال النزاعات الاهلية هناك علماء حول العالم هم بمثابة "طبيب استشاري" في ازمات يوغسلافيا السابقة وكل نزاعات العالم الثالث، يحسن بنا ان نسمع منهم، وان نشركهم في مراقبة ما يجري والتنبؤ بنهاياته، وقد انفقنا مليارات على تطوير حقول النفط، ويمكننا (من نحن؟) ان نستثمر المال كذلك في الاستعانة بعلماء لتطوير ممكنات الحياة وسط النزاع، والا فسنبقى تجمع قبائل كل يؤمن بأن الله معه، ونلاحق ثاراتنا الى الابد. وطريق الثأر في القرن الحادي والعشرين، هو طريق الانقراض نفسه.
(المدى العراقية)