ما من مسؤول غربي تحدث عن مخاطر ما يجري في
العراق، إلا مرّ على طائفية نوري المالكي وسياساته الرعناء ممثلة في تهميش وإقصاء العرب السنّة كسبب أساسي. وحدها
إيران وحلفاؤها من يتجاهلون ذلك كله، ويصرّون على أنها حرب مع "
الإرهاب التكفيري"، في تجاهل مقصود للظروف الموضوعية التي تؤدي إلى نشوء التنظيمات، وتمنحها القدرة على البقاء، فضلا عن التقدم، وفي مقدمتها الحاضنة الشعبية.
إيران وحلفاؤها (ساسة وإعلاميون) تخبطوا ولا زالوا يتخبطون في تحديد هوية المسؤول عما يجري في العراق، فمرة يتهمون أمريكا، بل مرات في واقع الحال، ربما لتأكيد أنهم قوم مسكونون بالمقاومة والممانعة، ومرات يتهمون السعودية التي يلوّح تنظيم الدولة باستهدافها، من دون أن يأتوا بدليل واحد؛ منطقي أو مادي على ما يقولون، ومرة يلمِّحون لتركيا، وأخرى يتهمون الأكراد بالتواطؤ مع المؤامرة، أقله فيما خصَّ هزيمة جيش المالكي هناك.
من المؤكد أن ثمة داعمين لتنظيم الدولة في السعودية والخليج، لكن هؤلاء أشخاص ولا صلة لهم بالوضع الرسمي، بخاصة في السعودية، أما الأهم فيتمثل في حقيقة أن التنظيم لم يعد في حاجة إلى دعم، إذ بات يوفر المال من بيع النفط ومن الغنائم التي يستولي عليها في
سوريا والعراق (قيل إنه استولى على 400 مليون من فرع البنك المركزي في الموصل).
أيا يكن الأمر، وحتى لو كان لبعض الدول صلتها بالتنظيم، الأمر الذي لا يُسنده دليل مقنع (كان البعض من لون آخر يتحدثون عن عمالة التنظيم لإيران!!)، فإن المؤكد هو ما أشرنا إليه حول الظرف الموضوعي الذي أنتجه ممثلا في الاحتلال الأمريكي، وفي الحكومة الطائفية التي أعادته قويا من جديد بعد أن ضعف نسبيا قبل سنوات على يد الصحوات والعشائر.
اليوم، وبعيدا عن هراء إيران وحلفائها (يقولون "
داعش صنيعة أمريكا، ثم يطالبونها بشن حرب عليه!!)؛ نتابع حربا عالمية على تنظيم الدولة؛ تبدأ من طهران التي باتت تدير المواجهة، ليس كما في سوريا، بل على نحو أكثر قوة ووضوحا، فهنا تحديدا يلتقي المحافظون والإصلاحيون على تأكيد تبعية العراق لإيران، الأمر الذي يختلف في سوريا، بدليل أن إيران لم ترسل مقاتلين إلى سوريا، بل مجرد خبراء، في حين تعلن عن إرسال خمسة آلاف متطوع إلى العراق، ويحضر قاسم سليماني شخصيا، ومعه 67 من الخبراء العسكريين، ودائما للدفاع عن العتبات المقدسة، تماما كما قيل في سوريا بادئ الأمر، وهي قصة بالمناسبة بالغة السخف، إذ ينسى هؤلاء وهؤلاء أن جميع تلك المواقع كانت ولا زالت موجودة في ظل دول سنية يعتبرونها بالغة البشاعة، كما في حالة صدام مثلا، فضلا عن الدولة العثمانية، وقبلها وبعدها.
أمريكا بدورها ترسل بارجة إلى الخليج، وتعلن تخصيص 275 جنديا من القوات الخاصة لإنقاذ رعاياها في حال اضطرت إلى ذلك، بخاصة أن في المنطقة الخضراء أكبر سفارة أمريكية في العام يعمل فيها 5000 موظف!!، أما الأهم فيتمثل في إعلانها إمكانية استخدام الضربات الجوية ضد "الإرهابيين"، الأمر الذي يلقى ترحيبا من سادة المقاومة والممانعة في طهران.
لا خلاف على أن أحدا في أمريكا أو الغرب لا يملك القابلية لإرسال قوات برية إلى العراق، وهم يكتفون بالدعم السياسي لحرب إيران ضد "الإرهابيين"، الأمر الذي قد يتطور للمساعدة في تنفيذ ضربات جوية، لكن المؤكد أن هؤلاء جميعا كانوا ولا يزالون متورطين في التواطؤ ضد ثورة الشعب السوري أيضا، مع خلاف أن ذلك يحدث لأن نتنياهو يفضل ذلك، ولأن إيران تُستنزف هناك، وستدفع ثمن ذلك برنامجها النووي العسكري، تماما كما دفع بشار سلاح سوريا الكيماوي.
ليس من اليسير الجزم بأن ميزان القوى على الأرض لن يتغير لصالح التحالف الإيراني تبعا لقوة النيران، وفي مقدمتها الجوية، فضلا عن الحشد الطائفي ومئات الآلاف من المتطوعين (وكالة فارس قالت إن مليوني عراقي تطوعوا تلبية لنداء المراجع الكبار)، ولا ننسى بعض ملامح الخلاف التي يمكن أن تتفاقم لاحقا بين تنظيم الدولة وثوار العشائر، إلى جانب ميل فعاليات سياسية عربية سنية إلى تسوية تحصد بعض مكاسب الحرب على أمل عملية سياسية متوازنة (رعونة سياسيي العرب السنّة كانت على الدوام جزءا أساسيا من المشكلة)، لكن ذلك كله لا يعني توقف المعركة التي قد تتحول إلى نزيف آخر لإيران، لاسيما أنها ليست في وارد قبول تسوية معقولة في العراق، تماما كما هو حالها في سوريا، لكنها ستضطر إلى تجرّع كأس السم يوما، الأمر الذي سيرتبط بصراع الإصلاحيين والمحافظين داخل إيران، وقبلها صفقة النووي مع أمريكا والغرب (هي مع نتنياهو في واقع الحال، لأن النووي مشكلته هو، وليس مشكلة أمريكا والغرب).