كتب إبراهيم عرفات: مشكلة المنطقة ليست في تنظيم
داعش وإنما في البيئة التي تسمح بظهور ألف داعش وداعش. نعم داعش تنظيم خطير، لكن الأخطر منه أن تنظيم إقليمنا كله سيئ. فهو فوضوي باستمرار. وبدائي في روحه برغم مظاهر الحداثة المرسومة على وجهه. دائماً سائل ومضطرب. هش ومخترق. إقليم طائش تؤكد طيشه قصص الجنون السياسي والديني والاقتصادي التي لا يخرج من واحدة منها إلا ليدخل في أخرى. ولا غرابة في مثل هذا الإقليم الطائش أن تظهر داعش. ولا غرابة أيضاً متى انتهت قصته مع داعش أن تبدأ قصص أكثر دراماتيكية مع دواعش أخرى.
داعش تنظيم عقيدي قتالي علا نجمه بسرعة. يتقدم ويزحف. يأخذ مدينة تلو أخرى. يُسقط الحدود ويحطم المعابر ويعلن انه سيلغي الدول نفسها ليؤسس دولته الموعودة. يسيطر على مصافي نفط. يبيع شحنات من الذهب الأسود في شمال سوريا إلى تركيا. استولى على مستودعات سلاح كبيرة في العراق. وقعت في يده أسلحة أميركية اشتراها العراقيون بمئات الملايين من الدولارات. وضع أرصدة البنك المركزي في الموصل تحت تصرفه. لعب في العراق على العداء الطائفي الذي أججه «المالكي» بين السنة والشيعة. استمال عشائر سنية ذات بأس قدمت له الأرض والجنود وكل ما يحتاجه. باتت لديه موارد مالية تكفي لتمويل 60 ألف مقاتل لمدة عام بمرتب يصل إلى 600 دولار شهرياً. تولى إدارة المناطق التي أسقط فيها الدولة. يُقدم لسكانها الخدمات إذا هم وافقوه ويشهر في وجوههم السيف إذا هم خالفوه. لم يكتف بفتح الحدود بين سوريا والعراق وإنما راح يدق بقوة أبواب الأردن. أثار ذعراً كبيراً في البلد الذي خرج منه «أبو مصعب الزرقاوي» متجهاً إلى العراق. واليوم تحاول داعش أن تعود إلى الأردن لتأخذه ولتأخذ بالثأر لمقتل الزرقاوي أحد رعاته المؤسسين. وكان أن امتد الفزع من داعش إلى السعودية والخليج. ومنه إلى مصر وما وراءها غرباً. بدا التنظيم وكأنه المعادل السني العنيف للهلال الشيعي العنيف الذي غذته إيران ودعمه حزب الله والحوثيون.
لكن داعش مثلما علا نجمه بسرعة سيخفت. وقد يكون ذلك أيضاً بسرعة. مثله في ذلك مثل معظم حركات الإسلام السياسي. فباستثناءات قليلة استمرت طويلاً، فإن أكثر الحركات الإسلامية مؤقتة مرحلية. تكوينات ظرفية تنتهي متى استنفدت الغرض منها. والتاريخ الحديث مليء بحركات عاشت لسنة أو لخمس ثم اختفت إما لأنها حلت نفسها أو لأن موازين القوى انتهت بتصفيتها. وداعش من هذه العينة من التنظيمات. فهو بالنسبة للعراقيين السنة لم يكن أكثر من اختيار الضرورة. حملتهم على قبوله تصرفات «المالكي» الموغلة في الطائفية. لكنهم لن يستمروا في دعمه والاعتماد عليه. فوثيقة المدينة التي أصدرها التنظيم تعلن أن «أبو بكر البغدادي» أمير التنظيم هو إمام المسلمين وألغت أي ولاء لغيره. وبالتالي فهي تطلب من العراقيين السنة التخلي عن مشايخهم وروابطهم التقليدية وهو ما لن يستطيعوه. فضلاً عن أن التنظيم سيجد عند حدود الأردن مصالح أردنية وأخرى إسرائيلية قوية ستسعى إلى وقفه بكل قوة. ناهيك عن أن أي عبث يحاوله داعش في الخليج سيواجه بتصد حاسم من قوى إقليمية ودولية تستطيع افتراس كل جسده الظاهر على الأرض واستعادة كل ما وضع يده عليه ليعود إلى السراديب التي خرج منها.
والمشكلة كلها في هذه السراديب أو تلك الأقبية العميقة المنتشرة في منطقتنا والتي لم تسد ولا يبدو أنها ستسد قريباً. يأوي إليها كل أصحاب الأفكار المنحرفة. وفيها يتآمرون ويخططون ثم ينطلقون في سلب ونهب العقل والمال والأرض. في هذه السراديب بدأ داعش مثلما بدأت كل الحركات السرية المسلحة في المنطقة. ومنها ستنطلق في المستقبل جماعات جديدة. وهذا ليس تشاؤماً بل واقعية. خذ مثلاً سرداب المظالم. فهو عميق وممتد في المنطقة شرقاً وغرباً. فالمسافة بين الأغنياء والفقراء تزداد. والمسافة بين الطلب على الحريات والمعروض منها أيضاً تزداد. والمسافة النفسية بل والجغرافية بين الطوائف والمذاهب والأعراق في نفس البلد تتباعد. يقال للناس على الورق ويكتب في الدساتير أنكم متساوون. لكنهم عندما يجدون على الأرض أن المسافات تتباعد والمظالم تتصاعد، لا يجدون أمامهم بعد نفاد الصبر غير النزول إلى السراديب. وهناك يكونون جماعات مثل داعش. فيها يجمعون المال والرجال والعتاد ثم يخرجون إلى السطح بذريعة تصحيح المظالم مستعملين أقصى درجات العنف والوحشية. يمارسون الإرهاب فيُضربون ويُحملون على العودة إلى السراديب من جديد محملين بأذيال الخيبة بعد مواجهة غير متكافئة معبئين بمشاعر حنق جديدة بسبب تراكم المظالم واتساع المسافات بين الناس.
وحينما يترك نظام إقليمي سرداب المظالم وحده بلا علاج لعقود إن لم يكن لقرون فلا بد أن يوصف بالإقليم الطائش. ناهيك عن إهماله لسراديب أخرى تتغذى في باطنها الأفكار والجماعات العنيفة. من ذلك سرداب التخلف الفكري الذي تولد فيه أراء مجنونة، أول ما تخرج من السرداب تتسيد لتهمش الأفكار الرشيدة العقلانية. ومنها أيضاً سرداب التوظيف الشرير للدين القويم لصالح سياسات غير قويمة. فالدين ما زال يستغل في غير ما خلقه الله له. تحاول حكومات استعماله كمصدر للشرعية بدلاً من أن تعتمد على الانجاز، الذي هو المصدر الحقيقي للشرعية. ولم يكن غريباً أن يجد أهل السراديب مراراً حكومات تدفع لهم لا لكي تنتشلهم وتعلمهم وتعيد تأهيلهم وإنما لتستغلهم وتوجههم لخدمة أغراض دنيوية وأطماع سياسية. كما أن هناك سرداب الاستقطاب والانقسام السياسيين الحادين بين دول المنطقة والذي يغذي نشأة مثل هذه الجماعات. بجانب الطائفية التي تعد سرداباً آخراً سيئاً يُخفي فيه كثير من الناس مشاعرهم إلى أن يحين الوقت ليفجروها في وجوه بعضهم البعض.
كل هذه السراديب أو أسباب الفشل العميقة لن تجعل داعش إلا قصة عابرة في إقليم طائش. ستختفي داعش كما اختفت وتراجعت حركات غيرها. لكن سرعان ما ستظهر تنظيمات أخرى ربما أسوأ منها. ما العمل؟ يبقى دائماً العقل هو الحل. المشكلة أن أصحاب العقول لا يُمكّنون.
(الوطن القطرية)