كتب ديفيد هيرست: على مدى الأيام الماضية كان يقتل في
غزة طفل فلسطيني واحد كل ساعة، لا شك أنها حصيلة صادمة، لكنهم يستحقون ما يحل بهم، فهم مذنبون لأنهم كانوا حينما استهدفوا بقذائف تساقطت على رؤوسهم في بيوتهم، في
الملاجئ، في
سيارات الإسعاف، في المراكز الطبية أو يلعبون على الشاطئ. إنهم مذنبون كذلك لأن هذه الأسلحة الدقيقة موجهة أيضاً، وتستهدفهم عن عمد وسبق ترصد.
ينسى أطفال غزة هؤلاء أن الإصبع على الزناد هو إصبع جندي ينتمي لأكثر جيوش العالم انضباطاً وإحساساً بوخز الضمير، إنه جندي من النوع الذي يبكي ألماً كلما أطلق النار. ينسى هؤلاء الأطفال أن هذه
القنابل لم يكن يقصد منها التدمير وإنما إعادة البناء. والحقيقة أن غزة أعيد بناؤها خمس مرات من عام 2006، كما يشهد بذلك هؤلاء الأطفال.
الحروب تدمر، أما العمليات فتطهر. والحقيقة أن هذه العملية التي تنفذ جراحياً وتتسم بالدقة الفائقة ينبغي في الواقع اعتبار أنها لا تتجاوز في شرها ما لعبوة ضخمة من السائل المطهر من شرور، التي إذا ما استخدمت بحكمة فإنها تطهر 8ر1 مليون فلسطيني من جميع الجراثيم الضارة مثل حماس والجهاد الإسلامي أو من إرادة المقاومة، ولا بأس في ذلك لأن ما لا يقل عن 6ر1 مليون منهم يعانون من انعدام الأمن الغذائي على كل حال.
حالما يتم الانتهاء من إجراء هذه العملية - ونعم، إنها تؤلم الطبيب بقدر ما تؤلم المريض - فإن شعب غزة الفقير، ولكن الممتن، سيعيش في سعادة جنباً إلى جنب بمحاذاة شعب إسرائيل الثري، ولكن طالما استمروا في قراءة تلك القصاصات، وجلسوا في الظلام الدامس، وشربوا الماء الملوث وتجنبوا الذهاب لجمع زغب النبات قريباً من أبراج المراقبة.
مرحباً بكم في العالم الموازي، حيث الضحية هو المعتدي، حيث تهاجم حماس إسرائيل لأنه ليس لديها ما تخسره، وحيث تفرض حماس حصاراً على إسرائيل.
لم تمض سوى ثلاثة أسابيع، ومع ذلك فالمكان ينغل بمبعوثي حكومات أمريكا وأوروبا وإسرائيل وجل همهم أن يرى العالم ما يجري في السياق السليم، وهو: أن هذه الحرب ما هي إلا دفاع عن النفس.
الحركة في هذه الكون مرتبة ومصممة، وكلنا نعرف الوقع والإيقاع. ينبغي أن يكون رد إسرائيل "متناسباً"، ولكن، وكما يعلم الاتحاد الأوروبي وحتى قبل أن يتنفس ببنت شفة لن يسمح لمحكمة دولية واحدة بأن تدلي برأيها في الموضوع. قد تتحول جهنم إلى قطعة من الجليد أما أن تسمح الإدارة الأمريكية بمقاضاة الحكومة الإسرائيلية في محكمة دولية فهذا ما لا يخطر ببال.
إذن، بإمكان الجيش الإسرائيلي أن يفعل ما يريد، وها هو الآن يطوق القرى الواقعة في شمال غزة ويحاصرها.
لا يوجد منطق في هذا العالم. يقولون إن الصواريخ التي تنطلق من غزة تحيل الحياة في إسرائيل إلى شيء لا يطاق، وكأنما الصواريخ التي تطلق بالاتجاه المعاكس تطاق، ولكن حينما تعمد شركات الطيران العالمية إلى أخذ تهديد الصواريخ الغزية على محمل الجد وتلغي رحلاتها إلى مطار بن غوريون، فإن ذلك يصبح في نظر الإسرائيليين غدراً.
فإسرائيل لا تحب أن تنقطع وتترك وحيدة، ولو حتى لما لا يزيد عن أربعة وعشرين ساعة. لعلها الآن تعرف ما هو شعور الإنسان الذي عاش في غزة على مدار الأعوام السبعة الماضية.
ما يفقده هؤلاء هو فهم أساسي للنفسية الإنسانية. في الحرب العالمية الثانية تمكنت مدينة كوفنتري البريطانية من إعادة تأهيل مصانع السلاح فيها خلال أسابيع قليلة من الهجوم الألماني المكثف عليها. حينها، لم يأبه من بقوا على قيد الحياة أي ساعات من النهار أو الليل عملوا، ولا يقعدهم الحرص على أمنهم وسلامتهم، ولم يقلقهم أنهم لم يلبسوا الخوذات على رؤوسهم.
تقول جين تيلور: "كان رد الفعل الأول هو الصدمة، أما رد الفعل الثاني فعبر الناس عنه بالقول إننا لن نسمح لهؤلاء الأوغاد بالإفلات من العقاب على ما فعلوا بنا.
يجتاح غزة تصميم مشابه بعد كل حرب، ونتيجة لذلك يحفرون خنادق أعمق ويصنعون صواريخ أقوى وأبعد مدى. فمنذ أن بدأت صواريخ غزة محلية الصنع تتساقط على جنوب إسرائيل، جرى تطويرها حتى اتسع مداها من بضعة كيلومترات إلى ما يزيد عن مائة كيلوميتر. كل ما يحدث هو أن التصميم الجمعي يتعاظم.
وإذا كان هناك من يظن بأن هؤلاء الأطفال سيكونون أقرب إلى "الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود" بعد أن أبيدت عائلاتهم الممتدة عن بكرة أبيها، فلابد أنه يتعاطى حبوب هلوسة من نوع ما. حينما يشب هؤلاء الأطفال لن يخطر ببالهم أن يتساءلوا عن مدى ما ينبغي أن يتحلوا به من هدوء تجاه جيرانهم.
سوف يمتطون الصعاب لكي يكتسبوا مهارات قتالية تتفوق في الفعالية على ما كان يتمتع به آباؤهم، فما يعتمل في نفوسهم من غضب لا ينفس إلا بتحدي المستحيل. إذا ما أزيلت حماس تماماً من الخارطة، كما يتمنى ليبراليو إسرائيل بكل شغف، فإن المهمة ستقع على كاهل من هم أعصى وأشرس. إذا كانت إسرائيل تعتقد بأنها لا تستطيع التفاوض مع حماس، ماذا ستقول حينما تجد نفسها بجوار الدولة الإسلامية، ذلك النمط المستحدث من الخلافة، التي لا تعترف بالحدود؟
يسارع المعلقون الذين يفضلون حل الدولتين إلى تبرير عملية الاجتياح الأرضي، فهذا دافيد لانداو، المحرر السابق لصحيفة هآرتز والبريطاني المولد يجادل بأن من الممكن الدفاع أخلاقياً عن الاجتياح الأرضي على أساس أنه سيقلل من الخسائر غير المقصودة مقارنة بالقصف الجوي.
وفي مقال له في صحيفة يديعوت أحرونوت، يقول يوفال ديسكين، مدير الشين بيت السابق:
"إذا ما رفضت حماس المبادرات السياسية واستمرت في الإصرار على المواجهة العسكرية، فعلى إسرائيل أن تبدو عازمة على الاستمرار حتى النهاية إلى أن تحتل قطاع غزة بالكامل وتسقط نظام حكم حماس. لن يكون ثمة منتصر في مثل هذا السيناريو، وسيتمخض القتال في هذه الحالة عن الكثير من القتلى في الطرفين. في نهاية المطاف، سوف يسقط نظام حماس، وقد يتطلب الأمر بقاء دولة إسرائيل هناك لعام أو عامين حتى تتمكن من تطهير المنطقة من العناصر الإرهابية ومن العديد من البنى التحتية للإرهاب التي أقيمت هناك."
ينسى لانداو وديسكين كيف انتهى صراع آخر كان عصياً على الحل، ألا وهو نضال الجيش الجمهوري الإيرلندي في إيرلاندا. كان ذلك أيضاً صراعاً لم يعترف فيه الطرفان بحق بعضهما البعض في الوجود، ومازالا على ذلك رغم توقف الصراع.
حتى يومنا هذا، لا يعترف الجمهوريون بتقسيم إيرلندا إلى ست محافظات، هذا مع أنهم الآن يعملون فيما كانوا من قبل يطلقون عليه اسم "المجلس التجزيئ" في ستورمونت.
أما الاتحاديون فما يزالون يرون أنفسهم يعيشون في بريطانيا. وفي هذه الأثناء تبقى اللغة المقصية للآخر قيد الاستعمال في الطرفين، إلا أن الحرب انتهت، ربما ليس بشكل نهائي، ولكن بما يكفي لتغيير حياة معظم الناس.
بدأت نهاية الحرب حينما أدرك الطرفان بأنهما لم يعد بإمكانهما تحقيق أهدافهما من خلال القتال. كانت القوات البريطانية قد استعملت كل ما في جعبتها، بل وكل ما قد يخطر بالبال، تقريباً من وسائل مكافحة التمرد ضد الجيش الجمهوري الإيرلندي ولكنها فشلت.
تحقق التقدم فقط حينما بدأت بريطانيا تعالج القضايا السياسية المرتبطة بالصراع وبدأ وزراء الحكومة البريطانية يتحدثون وجهاً لوجه مع الجيش الجمهوري الإيرلندي بينما كانت حملتهم المناهضة للبريطانيين ماتزال في أوجها قبل التوصل إلى اتفاقية الجمعة المجيدة وبدء عملية جمع السلاح.
في نهاية المطاف لم تكن الأرضية السياسية المشتركة للبروتستانت والكاثوليك في شمال إيرلندا هي التي أوصلتهم إلى إبرام صفقة، ولم تكن بسبب الحوار بين SDLP و OUP وإنما بسبب الحوار بين الشين فين و DUP.
الدرس المستفاد من شمال إيرلندا، التي كان ديسكن قد زارها، مفاده أن الصراع سينتهي فقط حينما تجلس الحكومة وتتحدث مع الناس الذين تصفهم الآن بالإرهاب، وجهاً لوجه، وحول طاولة واحدة. ديسكن نفسه يرى الحاجة إلى العجلة، إذ يقول:
"ينبغي على إسرائيل أن تحقق مكسباً مهماً قبل أن تبدأ التعقيدات من مثل بروز جبهات أخرى في الضفة الغربية وتنظيم المظاهرات الاحتجاجية من قبل مواطني إسرائيل العرب، أو حتى اندلاع الجبهة الشمالية. ولا يقل خطورة عن كل ذلك التآكل السريع للتفويض الدولي الذي تتمتع به دولة إسرائيل في هذه اللحظة".
لعل هذه التعقيدات قد بدأت في التحقق على أرض الواقع. فها هو بسام أبو شريف، كبير مستشاري ياسر عرفات سابقاً وأحد المبادرين الرئيسيين بعملية أوسلو للسلام، يقول إنه كان مخطئاً حينما ظن أن إسرائيل تنشد السلام. وذكر في مقال نشره له موقع ميد إيست آي:
"في يونيو من عام 1988 كتبت مقالاً نشر في نيويورك تايمز والوول ستريت جورنال اقترحت فيه حل الدولتين. كنت مخطئاً حينها. فالإسرائيليون لا ينشدون السلام. بل كل ما يريدونه هو الاستيلاء على منازلنا ومزارعنا وأراضينا. إنهم يريدون منا معشر الفلسطينيين أن نزال، أن نذوب أو أن نختفي وأن تمحى آثارنا".
بإمكاني تصور استنتاجات مشابهة يخلص إليها أصحابها في غزة. فالطفل الفلسطيني المعتدى عليه اليوم هو مقاتل الغد. من الذي يدرب هؤلاء الأطفال؟ إنه الجيش الإسرائيلي. من الذي يقنعهم بأن معركة أجدادهم وآبائهم هي معركتهم؟ السياسيون الإسرائيليون هم من يفعل ذلك. وكما كان يقول الجيش الجمهوري الإيرلندي، يحتاج المرء حتى يتحول إلى معسكر الجمهوريين أن يناله بعض من الركل والامتهان على أيدي القوات البريطانية. وهذا بالضبط ما تفعله إسرائيل اليوم بجميع الغزيين، إنها تركلهم بقوة.
• مترجم لـ"عربي21" عن موقع "هافينغتون بوست"