كتب ميرون رابوبورت: لعل عملية الجرف الواقي تشكل نصراً سياسياً، إن لم يكن عسكرياً، لحماس وعباس.
في السادس والعشرين من أكتوبر 1973، اليوم الذي أعلن فيه وقف إطلاق النار الذي أنهى حرب يوم الغفران، كانت القوات
الإسرائيلية على بعد ما يقرب من مائة كيلومتر من القاهرة.
أما على الجبهة السورية فكانت القوات الإسرائيلية على بعد ما يقرب من أربعين كيلومتراً من دمشق. موسوعة ويكيبيديا تلخص حرب عام 1973 بكل بساطة كالتالي: “النتيجة: انتصار عسكري إسرائيلي” ولكنه لم يكن واضحاً جداً.
من المستحيل عدم رسم خط مباشر بين حرب 1973 واتفاقية السلام التي أبرمت في كامب دافيد، والتي تمخضت عن تنازل إسرائيل عن نفس الأراضي في سيناء التي قاتلت بضراوة من أجل الاحتفاظ بها تحت سيطرتها قبل خمسة أعوام فقط. حينما فقدت إسرائيل الثقة، وكسبت بعضها
مصر، فقط حينذاك أمكن التوصل إلى تسوية.
لعله من المبكر جداً، وقد يكون من غير اللائق بعد، مقارنة حرب صيف 2014 بين إسرائيل وحماس في
غزة بحرب أكتوبر 1973. فبينما صدمت إسرائيل عام 1973 حينما توجهت الجيوش العربية إلى الحرب معها، تعتبر الحرب ضدة حماس أمراً روتينياً.
لقد فقدت إسرائيل 64 جندياً في الصراع الأخير في غزة - وهو عدد يفوق بكثير توقعاتها - إلا أنها فقطت في حرب 1973 أكثر من 2200 جندي. أياً كان الأمر، ثمة أوجه تشابه بين الحربين يمكن رسم ملامحها.
يمكن من ناحية معينة اعتبار عملية الجرف الواقي أول حرب مباشرة بين إسرائيل والقوات العسكرية الفلسطينية تدور رحاها على الأرض الفلسطينية. ففي عام 1948 لم يكن ثمة جيش فلسطيني بأي معنى للكلمة، وفي عام 1982 جرت الحرب على الأرض اللبنانية بينما اتخذت الانتفاضتان الأولى والثانية شكل مواجهة بين مدنيين (فلسطينيين) وعسكريين (إسرائيليين) أو بين إرهابيين (فلسطينيين) ومدنيين (إسرائيليين). كما أن العمليات الإسرائيلية السابقة في غزة كانت إلى حد بعيد من طرف واحد إذا ما نظر إليها من وجهة عسكرية بحتة.
أما هذه المرة، فقد واجهت حماس والجهاد الإسلامي الدبابات وقوات النخبة الإسرائيلية المرة تلو الأخرى، وبينما قد لا تكون الحركتان قد كسبتا إلا أن من الواضح أنهما لم تخسرا. كانت هناك أسباب عدة لامتناع إسرائيل عن غزو قطاع غزة بأسره، وكان أحد هذه الأسباب هو القتال الضاري الذي أبداه المقاتلون الفلسطينيون، حتى أن نتنياهو نفسه أشار إليه حينما ذهب يشرح الأسباب التي دفعته إلى وقف عملية الاجتياح الأرضي ليلة السبت.
يمكن من الآن تلمس النتيجة السياسية لهذه المواجهة الصعبة. قبل أقل من أربعة شهور وبخ رئيس الوزراء نتنياهو وزيرة العدل تسيبي ليفني لأنها تجرأت على تجاهل قرار الحكومة بقطع كافة الاتصالات بالسلطة الفلسطينية. بغض النظر عن قرار الحكومة، اجتمعت ليفني برئيس السلطة الفلسطينية عباس (أبو مازن) في لندن.
ولكن اليوم توجه وفد إسرائيلي إلى مصر للتفاوض مع وفد فلسطيني موحد يتشكل من فتح وحماس والجهاد الإسلامي، وها هي حكومة المصالحة الفلسطينية، التي اعتبرتها إسرائيل حتى وقت قريب جداً حكومة “إرهابية”، تستعد على وجه التأكيد لتكون جزءاً من أي تسوية يتم التوصل إليها في محادثات القاهرة.
يقول الدكتور يوسي بيلين، “عراب” اتفاقيات أوسلو: “أسمع أنغام الموسيقى تصدر عن الحكومة الإسرائيلية، وخاصة عن نتنياهو نفسه. لقد انتهى الحظر المفروض على أبي مازن”.
يرى بيلين أن الاعتراف بحكومة المصالحة تحقق بحكم الأمر الواقع، ويأمل أنه بعد العملية العسكرية غير الناجحة جداً، قد يتعلم نتنياهو كيف يرى فوائد الزعامة الفلسطينية الموحدة، ويقول: “الرأي العام في الطرفين يزداد تمسكاً بمواقفه القديمة، ولم نلحظ تغيراً ملموساً في استطلاعات الرأي، وخاصة في الجانب الإسرائيلي”.
إلا أن بيلين، صاحب الخبرة الطويلة في كثير من جولات التفاوض بين الإسرائيليين والفلسطينيين، يقول - رغماً عن ذلك - إنه يستشعر تحولاً في سياسة أبي مازن. فعباس أقل ميلاً الآن للتحدث بشكل مباشر مع إسرائيل، وهو الآن يتوجه بنظره بدلاً عن ذلك، وبشكل متزايد، نحو الساحة الدولية.
ويرى بيلين أن عباس، كزعيم للمعسكر الفلسطيني بأسره - بما في ذلك حماس - يتوجب عليه الآن أن يكون أكثر التزاماً بالتحركات الدولية.
ما يسأل بيلين نفسه عنه، ويشاركه في ذلك كثيرون آخرون في إسرائيل وفي أماكن أخرى من العالم، هو إلى أي مدى ستقنع العملية الأخيرة الشعب الإسرائيلي وقادته، حتي ولو بقدر بسيط جداً، أن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني لا يمكن حله بالقوة رغم التفوق الساحق لإسرائيل من الناحية العسكرية.
لا غرو في أن إسرائيل أحلت بغزة دماراً مريعاً، ولقد دمرت أكثر من ثلاثين نفقاً وقتلت المئات من النشطاء العسكريين (وإن كان لا يعلم يقيناً العدد الحقيقي) وقتلت كذلك ما يزيد عن ألف مدني. ومع ذلك مايزال معظم الإسرائيليين يشعرون بأن كل ذلك فشل في ردع حماس والجهاد الإسلامي عن مواصلة قتالهم.
أما في الجانب الفلسطيني، فيبدو، رغم الغضب والحزن، أنه ثمة شعور قوي بالإنجاز، إذ تجرأت حماس على الدخول في مواجهة مباشرة مع جيش إسرائيل القوي، ولم يتحرك لها رمش.
والسؤال الكبير هو إلى أي مدى سيسمح هذا الشعور بالإنجاز لحماس وغيرها من الفصائل الفلسطينية البحث عن أو الموافقة على شروط منطقية لوقف إطلاق النار.
والسؤال الأكبر مع ذلك هو إلى أي مدى يا ترى لدى إسرائيل الاستعداد لتضع جانباً سياستها المستمرة منذ وقت طويل والمسماة “إردع وعاقب”، وما إذا كانت ستنطلق في الطريق الذي يؤدي في نهايته إلى اتفاقية تقوم على التسوية بعد إدراك محدودية جدوى اللجوء إلى القوة العسكرية.
إذا لم تؤد محادثات القاهرة إلى نتائج ملموسة - مثل تخفيف الحصار المفروض على غزة إن لم يكن رفعه بالكامل - فسوف يتذكر الناس حرب صيف 2014 على أنها مجرد جولة أخرى من العنف بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
أما، في المقابل، وبفعل ضغوط مصرية أو أمريكية، لو انتهى المطاف بأهل غزة لأن ينعموا بمزيد من الحرية وتمكنت حكومة الوحدة الفلسطينية رويداً رويداً من إحداث أثر ملموس على الأرض، فقد ينظر إلى هذه الحرب في المستقبل كما ننظر الآن إلي حرب أكتوبر 1973، أي كنصر سياسي، إن لم يكن عسكرياً، لحماس ولأبي مازن أيضاً.
ميرون رابوبورت صحفي وكاتب إسرائيلي، والحائز علي جائزة نابولي الدولية للصحافة على تحقيقه المتعلق بسرقة أشجار الزيتون من أصحابها الفلسطينيين. كان من قبل يشغل منصب رئيس قسم الأخبار في صحيفة هآرتز ويعمل الآن صحفياً مستقلاً.
(نقلا عن صحيفة "ميدل إيست آي" البريطانية بترجمة "عربي 21")