لا شيء تُريده الفتاة "ربى السوسي" (19 عاما)، من هذه الحياة سوى أن تُهديها يوما عاديا، بتفاصيل يفعلها الآخرون في كل مكان في العالم كل يوم، كأن تسدل شعرها على كتفيّها، وتغفو على سريرها في غرفتها، وأن تغسل يديها، ووجهها دون أن تضطر للوقوف في طابور طويل، يؤمه الصغار والكبار.
غير أن هذا اليوم، سيظل خيالا يُراود "السوسي"، حتى إشعار آخر، كما تقول، وهي تُرتب في غطاء رأسها بعد أن كشف قليلا من شعرها، وتُغمض الفتاة عيونها وهي تتذكر حياتها قبل شهر من الآن.
"بدي، أعيش حياتي العادية، هان فش حياة".
ويبدو وصف "السوسي"، متواضعا أمام المأساة الإنسانية في مدرسة "
غزة الجديدة" التابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، والتي اتخذها النازحون من بيوتهم، كمركز للإيواء بفعل الحرب
الإسرائيلية، المستمرة على القطاع لليوم الـ"34" على التوالي.
فلا مظاهر لأدنى ملامح الحياة العادية والبسيطة داخل هذه المدرسة، التي تُشكل نموذجا لعشرات المدارس في قطاع غزة، والتي تضم في أروقتها آلاف النازحين والهاربين من قذائف الموت.
وتستدرك السوسي بصوت يقترب من البكاء:" أشتهي يوما أستلقي فيه داخل غرفتي، وعلى سريري، بعيدا عن هذه الأرضية الصلبة، وبكاء الصغار، والحشرات الليلية، والخوف من القصف، أريد لحياتي السابقة أن تعود".
وهذه المدارس لا تصلح لأنّ تكون مركزا للإيواء، كما تقول "سوسن أبو شنب"، (45 عاما)، وهي تراقب صغارها الثلاثة، وقد ارتموا بأجسادهم الصغيرة على أحواض صنابير مياه المدرسة، للحصول على حمامٍ سريع يزيل عنهم آثار الحر، وما يُخلفه تكدس العائلات في المكان.
ولا خصوصية هنا كما تروي أبو شنب:" لا مطبخ، ولا حمام، لا حياة نعيشها كباقي البشر، النساء طوال اليوم محجبات، في هذا المكان المفتوح والمكشوف".
وتتابع:" درجة الحرارة هنا لا تُطاق، أول أمس عثر أحدهم على عقرب كان في طريقه للاقتراب من أحد الأطفال النائمين، فقتّله، لا أمان هنا، الحياة العادية بتفاصيلها الصغيرة ماتت، أريد أن ينعم صغاري بحمام في البيت، أن أعد الطعام لهم في المطبخ".
و"أبو شنب"، واحدة من مئات النساء اللواتي فقدنّ بيوتهنّ، وأضحت كومة من الذكريات، والركام.
ولكن هذه الكومة بنظر المسنةّ صبحيّة العطارة (95 عاما)، تغدو "جنة" أمام الحياة في مدارس الإيواء، كما تقول.
وتُضيف وهي تنظر إلى النساء والأطفال بعيون الحسرة:" المدارس على الأبواب، أين سنذهب؟ هذه الأمكنّة، لا تصلح للحياة، ولا للسكن، لا مطبخ، ولا حمامات، المشكلة هنا، ليست في النوم، ولا في توفير الطعام، المأساة تكمن باختصار أن الجميع هنا يفتقد إلى بيته، وخصوصيته".
وعلى حبل صغير مهترئ، تنشر نجاح معروف (44 عاما) ثياب صغارها، بعد أن غسلتهم في إناء بلاستيكي صغير.
تمسح ما انساب على جبينها من عرق بفعل الحرارة التي تتصاعد درجة بعد أخرى، وتقول لوكالة الأناضول:" لم نعد نحتمل هذا العذاب، نريد بيوتنا، نريد بيوتا صالحة للحياة، تحمينا، وتحمي صغارنا، تعيد لنا خصوصيتنا، والأيام العادية التي كنا نحياها بكل بساطة".
وفي داخل إحدى الغرف، يرتمي على فرشة صغيرة أكثر من عشرة أشخاص، فيما يرتفع صوت عجوز في الغرفة المجاورة بأن يكفوا عن الصراخ.
وفي فناء المدرسة ينشغل عشرات الأطفال في تنظيف ما تراكم من أوساخ.
وعلى وجوه العشرات من النساء، ارتسم وجعا صامتا، يكشف توقهنّ لحياتهنّ الطبيعية، بعيدا عن غرف التشرد، والإيواء، والنزوح.
وتسببت الحرب الإسرائيلية المستمرة على قطاع غزة، بتشريد ونزوح مئات الآلاف من الفلسطينيين.
وتشير إحصائية أصدرها المركز الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، في غزة، إلى أن عدد النازحين قطاع غزة، يصل إلى 475 ألف فلسطيني، فيما أشارت إحصائية للمركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، إلى أن عدد النازحين يصل إلى نصف مليون شخص.
ولجأت غالبية النازحين إلى مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، بينما فضل آخرون اللجوء إلى منازل أقاربهم، الواقعة في أماكن يعتقدون أنها أكثر أمنا.