لا يستطيع أي منصف أن يقول بأنّ
الأكراد المنطقة لم يعانوا خلال العقود الماضية إبان مرحلة نشوء الدول القوميّة، التي قامت على أنقاض الامبراطورية العثمانيّة بعد الحرب العالمية الأولى، واتفاق سايكس-بيكو سيء الذكر.
لكن ما تمّ ذكره هو نصف الحقيقة فقط، فالحقيقة الكاملة تقول انّ شعوب المنطقة عانت بقدر معاناة الأكراد وأكثر، فكان مدّعوا
القومية العربية أكثر من أضر العروبة فكرة ومضمونا، فلا دولة قومية نشأت حقيقةً ولا أخذ أي من الأقوام حقّهم في هذه "الدول" التي امتدت من المحيط الى الخليج. وها هي اليوم دول وأنظمة وحكومات وجيوش ومرتزقة تدار بأكملها عبر موظّف واحد قابع في طهران.
لقد إستُغِلَتْ وإستُخدِمت الفكرة القوميّة في ذلك الوقت كورقة من قبل أطراف مختلفة كما تستخدم وتستغل الهوية الطائفيّة الآن في المنطقة، وفكرة أنّ الأكراد إضطهدوا لكونهم أكراداً ليست دقيقة بما فيه الكفاية، فهذا السفّاح الأب قتل في سوريا في مجزرة واحدة فقط حوالي 40 ألفا من المدنيين الذين اضطروا لسوء حظّهم أن يعانوا لانه استخدم الذبح وادّخر الكيماوي لابنه السفّاح الذي استخدمه العام الماضي. لقد كان أهل حماة من العرب الأقحاح ولم يكونوا كردا أو فرسا أو تركا، وقس على ذلك في جميع الدول العربية. وصولا الى أم الدنيا حيث فتك عبدالناصر بالاسلاميين وقد كانوا مصريين وعرب أيضا.
المفارقة انّ نفس الأكراد الموجودين على الساحة اليوم في
العراق تلقّوا دعما ممن يتاجرون بسيرة اضطهادهم لهم خلال السنوات الماضية. فالصراع بين البرازاني والطالباني لا يخفى على أحد، أحدهما كان يتلقى الدعم من نظام صدّام والآخر من نظام الخميني، أمّا الأسد الأب فقد كان يحتضن الزعيم الكردي عبدالله اوجلان ودعم الأسد الابن صالح مسلّم، ولا نريد ان نتحدث عن الدعم الذي حصلوا عليه من اسرائيل ايضا فهذا موضوع آخر، لكنّ الفكرة أنّ الأكراد لم يقاتلوا بعضهم البعض لأنّ أحدهم كردي والآخر غير كردي!
اتهم الاكراد العرب وغيرهم باستغلال الاوضاع بعد الحرب العالمية الأولى لتحقيق مصالحهم وبأنّ ذلك كان على حسابهم، ولكن الاكراد يفعلون نفس الشيء اليوم تماما، وتصحيص الخطا لا يتم بخطأ أكبر منه. فها هم الاكراد (مع الاعتراف بامكانية وجود استثناءات لا تقبل التعميم) يستغلون كل محطّة للمضي قدما في مشروعهم الخاص وليس للمطالبة بحقوقهم المشروعة في أن يكونوا مواطنين في دول موجودة يتساوون فيها مع الآخر في الحقوق والواجبات وهو الامر الذي كان يجب ان يكون ويجب أن يكون.
استغل أكراد العراق الاحتلال الأمريكي ليخطوا خطوة الى الامام في مشروعهم، وقد كان التحالف الشيعي- الكردي بمثابة المدماك الذي حصّن هذه الخطوة. لقد تحالف الأكراد مع المالكي فيما بعد على حساب السنّة العرب، وقد كانت المكاسب كبيرة، وعندما انتهى دوره ولم يعد جيّدا بالنسبة لهم انقلبوا عليه وانحازوا الى صف المعارضين. والانقلاب اليوم يأتي أكله، فالمكاسب كبيرة أيضا مع رحيل المالكي، لم يقتصر الأمر على ضم كركوك فقط العاصمة الحلم بالنسبة لهم، بل بدأت المساعدات العسكرية تأتيهم من كل حدب وصوب.
الغريب انّ اقرارها لم يستلزم سوى بضعة ساعات حتى تؤمّن الولايات المتّحدة والغرب لهم ما يحتاجون من أسلحة من مختلف الأنواع، واعتقد انّ ذلك لن يمر ذلك من دون ثمن سيدفعه العراق والمنقطة من دون شك، وقد يتبيّن في النهاية ان ارسال الأسلحة لم يكن هدفه تسليح البشمرغة في وجه تنظيم الدولة بقدر ما هو تسليح لمشروع الانفصال الكردي وتفتيت العراق.
الأغرب انّ اقليم شمال العراق في نهاية المطاف ليس دولة مستقلة (على الأقل نظريا ورسميا)، كما انّ البشمارغة ما هي الا ميليشيات مقاتلة، ولكنّ ذلك لم يمنع واشنطن والدول الاوروبية من ارسال الاسلحة بسخاء ودون الحاجة الى نقاشات برلمانيّة لطالما تذرّعت بها في وقت كان فيه المنشقون عن الجيش السوري بداية الثورة السورية يطالبون فيه بالحصول على أسلحة (وهم المقاتلون النظاميون المحترفون) ليواجهوا بها نظام أقلية يذبح أغلبية الشعب وليس العكس، ولم يحرّك استخدام الكيماوي أو البراميل المتفجرة أو المدافع أو السكاكين أي شيء فيهم لأكثر من ثلاثة سنوات.
لقد أصبح الأكراد في المنطقة كالمنشار على ما يبدو، ذهابا يأكلون وإيابا يأكلون. لكن لا شك ان تسليحهم في هذه الظروف الاقليمية قد يترك تداعيات على أكثر من صعيد:
1) سيؤدي تسليح الاكراد الى اخلال في توازن القوى بين الحكومة المركزية والاقليم، اذ ستشعر اي حكومة عراقية انها تحت سيف الابتزاز الدائم، فاما القبول بما يطرحه الاكراد (ويبدو انّ شهيتهم مفتوحة مؤخرا) او انهم يمتلكون القدرة عمليا على اعلان الاستقلال والدفاع عنه في اي وقت من الاوقات.
2) قد يغري وضع
كردستان العراق أخوانهم في البلدان الاخرى بالتوسع جغرافيا أيضا، فالأسلحة في نهاية المطاف قد تنتهي الى أطراف كرديّة أخرى. لطالما تحدّثت التقارير عن وجود خلافات بين حزب العمال الكردستاني (PKK) وبين البارزاني من جهة، وبين البارزاني وبين حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) في سوريا من جهة أخرى بسبب لجوء هذن الحزبين الى السلاح، لكن سرعان ما انقلبت الآية وبدأنا نقرأ عن تقارير لتدفق المقاتلين من هذين التنظيميّن المسلّحين للقتال مع البشمرغة ضد تنظيم الدولة.
لا احد يضمن هنا عدم انتقال الأسلحة لحزب الاتحاد الديمقراطي الذي سبق وان تلقى دعما من بشار الأسد، واعتدى على أكراد وعلى عرب، وقد يغريه ذلك في الذهاب بمشروعه الى خطوة أخرى الى الأمام، فهو ينشر منذ حوالي سنة خرائط لما يسميه كردستان سوريا او ( كوردستانا روج افا) تمتد من شمال شرق سوريا وحتى غربها وصولا الى الساحل السوري! ولعب دورا سيئا في محاربة الثوار السوريين وابتزاز المعارضة السورية، ومع ذلك لا مخاوف دولية من وصول السلاح اليه!
3) على الرغم من الاستقرار الظاهر لاقليم كردستان العراق، فان وضع الاكراد سياسيا ليس بالنصاعة التي تبدو عليه، فالصراع الداخلي بينهم قوي، ونظامهم السياسي في النهاية نظام عائلات، ومع رحيل الزعامات تبقى الامور مفتوحة على نزاعات قد تتحول الى صراعات عسكرية بسهولة.
البعض قد يعلل نزعاتهم الانفصالية في المطقة بالقول أنه الحل الافضل في ظل انهيار الدول القائمة حاليا وأنّ نشوء دولة كردية قد يجنّبهم الفوضى الحاصلة ويعفيهم من تداعياتها وهو في النهاية امر مشروع ومن حقّهم القيام به، لكن لا اعتقد انّ عاقلا سيوافق على امكانية نجاح مشروع انشاء دولة قومية في وقت تنهار فيه فكرة الدولة القوميّة منذ سنوات طويلة، كما لا اعتقد انّ عاقلا يوافق على ان انشاء دولة كردية سيكون الحل الافضل وانها ستكون بمعزل عن تداعيات الفوضى التي تضرب المنطقة ونتائجها.