لا تكمن أهمية
حزب الدعوة في كونه بقي على رأس السلطة لثلاث ولايات وفي متناوله الرابعة. بل في انه واحد من أقدم التشكيلات السياسية
العراقية، وقد تزعمته او كانت في قيادته وجوه بارزة في تاريخنا السياسي والديني، بل إن كل الأحزاب الشيعية تقريبا خرجت من عباءته ومن بين تنظيماته، فلأنه الحزب الأول شيعيا، فقد كان الأكثر انشقاقا طيلة نصف قرن أو أكثر. مؤسس المجلس الأعلى محمد باقر الحكيم كان هو وأخوته قادة في حزب الدعوة. عم السيد مقتدى الصدر أب روحي للحزب، ووالده من الدعاة الأوائل. وقل مثل هذا عن باقي الحركات الشيعية. وبين ملايين الضحايا العراقيين يمينا ويسارا، يقف جمهور هذا الحزب في الطليعة، وكلنا نقف إجلالاً لذكرى ابنائه (وهم اهلنا) من ضحايا القمع.
ولحسن حظ الحزب فإنه صار على رأس حكومات أتيحت لها اكبر الفرص لتوحيد البلاد روحيا واقتصاديا وثقافيا، وأتيحت له فرصة أن يكون ملهما يجمع بمهارة، أفضل ما في هذا البلد. ولسوء حظه أو لسوء حظنا، فإن هذا الحزب ساهم في تبديد فرص لا تحصى. لم يقم بإدارة الخلافات بروح "الأبوة" والشراكة التاريخية. وكل طرف كان يحتج على طريقة إدارة الدولة، كان يسمع من زعيم حزب الدعوة كلمة: "تفضل اطلع برة"، أي أن الحزب كان يستمتع بأن يقول لشركائه انه قوي جدا، وان كل من لا يعجبه الأمر عليه أن يخرج ويسد باب السلطان خلفه.
والحزب لم ينجح في تقديم فريق عمل مشهود له بالكفاءة والحصافة. بل كان في الغالب يستعين بشخصيات ضعيفة بلا طموح ولا كفاءة، أو شخصيات سليطة اللسان يستخدمها في هجماته الكثيرة. والنتيجة أن كل الكتل والطوائف تعترض على 8 أعوام من حكم حزب الدعوة، بأشكال مختلفة.
ولذلك كان هذا الحزب يتلعثم على طول الخط، ولا يهتدي إلى الخيار المتوازن إلا بعد تخبط شديد، وظلت الدولة كلها تتخبط معه في كل الملفات.
حزب الدعوة بقي يتخبط في تعريف القوة والمصلحة. ظل يراهن على "طرد الجميع" لإقناع الجمهور بأنه حزب قوي. ولم يحاول أن يجرب إقناع الجمهور بأنه قوي عبر مهارته في "جمع الناس" بالنبل والحكمة والصبر واستقطاب الأكثر كفاءة، والأكثر اتزانا. وقد استقطب بالفعل، النماذج الاسوأ والاكثر هزالا ليحشدهم للدفاع عنه!
هذه فقرات كتبتها صيف 2012 ونشرتها في "المدى"، ثم اعدت كتابتها صيف 2013 في المدى ايضا. وها انا اعيد نشرها بتصرف اليوم، حيث تبدأ فرصة جديدة، لا للعراق فحسب بل للحزب الذي خرج منتكساً من عهد زعيمه الاخير، وعليه ان يصحح المسار او يواجه الخيارات الاكثر قسوة، والعزلة السياسية الكاملة محليا ودوليا، كالعزلة التي جربها
المالكي في اخر حياته السياسية الاسبوع الماضي.
ان خارطة التغيير والاصلاح واضحة، اما كلمة السر فهي الصبر على سماع المشورة، والتقيد بقواعد اللعبة التي تنكر لها الزعيم الاخير لحزب الدعوة.
سألتني مجلة "تايم" الاميركية الشهيرة الجمعة: هل تشعر بالتفاؤل. فاقتبست عبارة "تشاؤم العقل، وتفاؤل الارادة" وهي عبارة حلوة بليغة منسوبة للفيلسوف الايطالي غرامشي، او المفكر الفرنسي بودريار. اننا مثل كل امة منتكسة، نحاول النهوض، فتتشاءم عقولنا ونحن نجرد الاحتمالات، لكن على ارادتنا ان تتفاءل ونحن نبحث عن طريق للقيام من الكبوة. لان بديل ذلك ان نواصل الهرب، حتى تقوم داعش برمينا في البحر، ساخرة من قياداتنا العاجزة.
التغيير بدأ، وسيحظى بدعم الجميع، في انتظار ان تكتمل الاشارات والضمانات، بفضل جهود ما تبقى من الحكماء الخارجين من تحت الرماد. والجديد هذه المرة ان الكتل النيابية صارت لديها "خبرة" في عزل الحاكم الذي تعبث برأسه الاوهام ونقص التدبير.
(المدى العراقية)