بغض النظر عن جواز أو معقولية المقارنة بين آلة الحرب الصهيونية التي يمتلكها جيش العدو المصنف ضمن أقوى عشرة جيوش على مستوى العالم، ترتدع منه كافة الجيوش النظامية العربية ، والمدعوم على المستوى العالمي والإقليمي مقارنة بسلاح المقاومة في
غزة المحاصرة منذ ثمان سنوات برا وبحرا وجوا في شريط ضيق لا تتجاوز مساحته 360 كيلومتر مربع ،مما يجعل الحديث التقليدي عن الرابح والخاسر في هذه الحرب غير التقليدية غير دقيق وغير منطقي أيضا.
فغزة ليست دولة مستقلة لها جيش حتى تكون الحسابات تقليدية ،مثل ما يحاول الترويج له الإعلام العربي المتصهين على غير الحقيقة من تحقق هزيمة المقاومة أمام الآلة الصهيونية المجرمة في الحرب الحالية على قطاع غزة ،مستندين إلى الأعداد التي فاقت الألف ونصف الألف من الشهداء ،الذين كان معظمهم من المدنيين والأطفال والنساء في القطاع ، ومتجاهلين ما تكبده الكيان الصهيوني من خسائر مادية وبشرية ونفسية لم تحدث له من قبل منذ ما يزيد على أربعين عاما، حين كانت حرب السادس من أكتوبر، محاولين بذلك تسفيه فكرة المقاومة في حد ذاتها وتحميل فصائلها الخسائر البشرية والمادية المترتبة عليها، وتبرير اشتراكهم الفج في ذلك
العدوان الذي عبر عنه رئيس وزراء دولة الكيان الصهيوني "بينامين نتينياهو" بقوله أن هذه الحرب هي الأولى التي تشارك فيها دولته أنظمة عربية مختلفة!.
ورغم أن الحرب لم تضع أوزارها بعد، مع التهدئة التي تتجدد وتُخترق أيضا، إلا أننا نستطيع قراءة ملامح انتصار المقاومة الفلسطينية بغض النظر عن النتائج النهائية التي لن تمنع بالقطع جولة قادمة للحرب ،مهما أن تعهد الصهاينة بذلك ،فكل حروب الصهاينة يسبقها تعهدات واتفاقيات وسرعان ما تخترقها بشن حرب جديدة غير عابئة بأي شئ سبق لها التوقيع عليه ،بما أنها دولة خارج نطاق عمل القانون الدولي وما يليه من اتفاقات أو معاهدات ،وان كان الدرس القاسي الذي تلقته من المقاومة في هذا العدوان سيجعلها تفكر جيدا قبل بدأ عدوان جديد ،وأولى ملامح هذا الانتصار تتضح من تتبع الهدف الذي من أجله قامت دولة الكيان الصهيوني بشن الحرب على غزة هذه المرة ،حيث أعلنت أن هدف الحرب في البداية هو منع إطلاق الصواريخ من غزة وتدمير قواعد الإطلاق ،ثم تراجعت اثر الانسحاب الأحادي الذي قامت به على حدود غزة والمعبر عن فشلها في استكمال الاجتياح البرى ،ولحفظ ماء الوجه ،لتعلن أن الهدف كان تدمير الأنفاق وقد تم لها تدمير ما يزيد عن 31 نفق منذ بداية الحرب ،ولكنها اعترفت بأن حماس قادرة على إعادة عمل الأنفاق من جديد ،كما أن لديها المزيد من الصواريخ التي تستطيع إطلاقها على الأراضي المحتلة ،بما يعنى أن ما يسمى بغلاف غزة ما يزال في قبضة المقاومة التي حرمت الجنوب
الإسرائيلي طوال أيام المعركة من الأمن والاطمئنان للعودة الآمنة لما كان عليه قبل بدأ الحرب ،فضلا عن الصواريخ التي طالت كل الأراضي المحتلة .
ومن ملامح النصر العسكري إلى النصر الإعلامي والمعنوي الذي عبر عنه كاتب إسرائيلي في مقال له في جريدة "هآرتس" بقوله أن أخطر الصواريخ التي أطلقتها حماس وعددها 3356 منذ بداية الحرب هو الصاروخ رقم 3357 السري كما سماه، ويعنى به ضرب قواعد التأييد التي كانت تتمتع به إسرائيل في خمس قارات ،وقد دلل على ذلك بالمظاهرات الحاشدة التي طافت عدد من دول العالم ،ومواقف بعض الدول خاصة في أمريكا اللاتينية التي لم تكن من قبل تهتم كثيرا بتفاصيل القضية الفلسطينية ،لدرجة أن رئيس دولة بوليفيا يعلنها صراحة "إسرائيل دولة إرهابية"،وتسحب البرازيل وبيرو والإكوادور وتشيلى والسلفادور سفرائها من دولة الكيان .
وعلى الصعيد السياسي ،فإن إصرار الوسيط المصري غير المحايد المتمثل في سلطة الانقلاب ،ومن ورائه دولة الكيان الصهيوني على فرض ما تسمى بالمبادرة المصرية بتعديلاتها المختلفة على فصائل المقاومة ،يدل على حرص دولة الكيان على إنهاء تلك الحرب التي أنهكتها وإن كانت لا تريد أن ترتب على خسارتها العسكرية مكاسب سياسية تضاف لجعبة المقاومة الباسلة ،فتحرص على مبادرة سلطة الانقلاب الباهتة التي تريد أن تجعل وقف القتال من أجل وقف القتال ،بعد فشل السلطتين ،سلطة الاحتلال ،وسلطة الانقلاب ،في تحقيق هدفهما المشترك حربا وحصارا ،مما جعلهما يصران معا على فكرة نزع سلاح المقاومة الذي فشل فيه جيش العدو عسكريا فأسند المهمة الى شريكه الانقلابي المصري لمحاولة تنفيذ المهمة بدبلوماسية باهتة لا تقل فشلا عن فشل الصهاينة في الحرب التي ما اندلعت إلا لهذا الهدف الذي لا يقوى على تحقيقه إلا المنتصر فعلا، وهذا ما لم يحدث بالطبع، ويضاف إلى ذلك استبدال الرئيس أبو مازن خطابه "الأوسلوي"ـ نسبة إلى أوسلوـ بخطاب المقاومة مؤخرا قبل أن يفوته القطار ،وعلى كل حال.
وبغض النظر عن المكاسب والمغانم التي ستجنيها المقاومة بعد انتهاء مفاوضاتها غير المباشرة مع العدو الصهيوني، وذلك لأن المغانم مهما كانت لن تفي حق الشعب الفلسطيني الذي لا يكفيه سوى إزالة الاحتلال ودولته ومحوها كاملة ، فاستمرار المقاومة كعقيدة وسلوكا في حد ذاته يعد انتصارا، أو بتعبير غسان كنفاني :"لست مهزوما مادمت تقاوم".