كتب فهمي هويدي: بوفاة الأستاذ
أحمد سيف الإسلام ـ الناشط الحقوقي ـ يختفي أحد اليساريين المحترمين، الذين يمثلون كتيبة مهددة بالانقراض في الساحة السياسية. فالرجل كان مناضلا استمد نبله من انتمائه الإنساني ووظف يساريته لأجل الدفاع عن الحق والعدل ومواجهة الظلم السياسي والاجتماعي.
ما كان بيننا لم يتجاوز الاتصالات الهاتفية من جانبي، حيث كنت أستوضحه في بعض المعلومات القانونية المتعلقة بالقضايا المعروضة. لكنني تابعت مواقفه وحواراته والمؤتمرات التي كان يعقدها في نقابة الصحفيين دفاعا عن المعتقلين، الذين شاءت المقادير أن يكون ابنه وابنته بينهم.
وفي حديثه ولقاءاته لم يكن الرجل يتكلم باعتباره يساريا له حساباته وتطلعاته وطموحاته الخاصة، ولكنه كان طول الوقت ذلك المناضل الذي يرفض الظلم ويقاومه بكل أشكاله بجرأة مدهشة، جعلته لا يبالي بالثمن الذي دفعه من حريته حين أمضى خمس سنوات من عمره في السجن، عانى فيها الكثير وتعلم منها الكثير. وهو ما ورَّثه لأسرته التي تحولت إلى حالة نضالية جديرة بالتقدير والإعجاب.
بوقوفه إلى جانب المظلومين ودفاعه عن إنسانيتهم وحقوقهم بصرف النظر عن اختلافاتهم الفكرية، في زمن الاستقطاب المروع، فإنه بدا قريبا من الجميع، ومختصرا للمسافات التي تفصل بينه وبين أي آخر مختلف معه. ذلك أنه بإنسانيته استحضر المشترك بينه وبين كل آخر. ومن ثم فإنه بدا نموذجا استثنائيا وفريدا بين يساريي هذا الزمان، حتى أزعم أنه صار بموقفه ذاك أبعد عن اليسار الاحترافي في صورته الراهنة وأقرب إلى من عداهم (جنازته تشهد بذلك).
عند الحد الأدنى فالرجل ظل مخلصا لقيمه، فلا باع ولا ساوم ولا دخل في صفقات أو تحالفات أو خصومات، كغيره ممن صار اليسار بالنسبة إليهم مشروعا سياسيا استثماريا جاهزا للميل مع كل ريح، وليس مشروعا فكريا له وجهه النضالي والإنساني. ومن المفارقات أن الرجل الذي ظل يقود حملة الدفاع عن المظلومين والمعذبين أصبح حضوره في الساحة السياسية أقوى بكثير من الذين يرفعون هذه الأيام رايات اليسار، مدعين أنهم الممثل الشرعي الوحيد له.
إن شئت فقل إن الرجل ظل حاضرا بقوة في قلب الواقع السياسي، في حين أن رافعي الرايات ظل حضورهم مقصورا على الفضاء التلفزيوني والإعلامي. حتى أزعم أنه بالنموذج الذي قدمه كشف أزمة اليسار
المصري الذي تحول إلى كيان يعرف بغيابه ولا يرى له حضور إلا في المهرجانات والمناسبات الاحتفالية.
الذين عرفوه في وقت مبكر يذكرون له أنه كان طالبا نابها في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، كما أنه كان ناشطا سياسيا وزعيما طلابيا وخطيبا مفوها. وبسبب انغماسه في السياسة فإنه أمضى نحو ثماني سنوات في الكلية (التحق بها في عام 69 وتخرج منها عام 77). وقد اعتبر تخرجه بداية لتفرغه للعمل السياسي والنضالي، مع رفاقه الذين جذبهم التيار اليساري.
وهو ما انتهى باتهامه بالانخراط فيما سمي آنذاك بـ«التنظيم الشيوعي المسلح»، الأمر الذي أدى إلى محاكمته في أوائل الثمانينيات والحكم عليه بالسجن مدة خمس سنوات. وإذ أرادوا أن يعاقبوه بذلك فإن الفترة التي قضاها في السجن صارت نقطة التحول الكبرى في حياته، فقد التحق خلالها بكلية الحقوق وتخرج منها لكي يصبح فيما بعد محاميا نابها، ثم إنه تعرض لتعذيب شديد ملأه بالغضب الذي دفعه لأن يكرس حياته للدفاع عن ضحايا التعذيب.
وكانت تلك هي الخلفية التي دفعته إلى تأسيسه مركز هشام مبارك للمساعدة القانونية. وكتبت له المقادير أن يلتحق بعد خروجه من السجن بمكتب للمحاماة لم يتعلم فيه أصول المهنة فحسب، ولكن لأن المكتب كان خاصا بأحد نبلاء اليسار في زمانه، الأستاذ نبيل الهلالي، فإنه تعلم هناك أيضا أخلاقيات وقيم النبل السياسي الذي كان صاحب المكتب رمزا له.
في مكتب المحاماة التحق الأستاذ أحمد سيف بكتيبة نبلاء اليسار الذين عرفتهم مصر خلال الأربعين سنة الأخيرة. الذين كان نبيل الهلالي على رأسهم، كما كان منهم الدكاترة والأساتذة إسماعيل صبري عبد الله وعبد العظيم أنيس وفؤاد مرسي وإبراهيم سعد الدين ومحمود العالم ومحمد سيد أحمد، وآخرون ربما لم يتح لي أن أتعرف عليهم. الشاهد أن هؤلاء رحلوا عن دنيانا، واحدا تلو الآخر، الأمر الذي سوغ لي بأن أصفهم بأنهم كتيبة منقرضة. ولست أشك في أن هؤلاء الراحلين لم يأخذوا النبل معهم، لأنني على ثقة من أن بين أهل اليسار قلة لا يزالون يرون فيه وجهه الإنساني إلى جانب وجهه النضالي والتقدمي.
بقدر ما أنني على ثقة من أن الواجهات الحالية التي ترفع رايات اليسار ليست أفضل تعبير عنه. وبقدر ما ينتابنا شعور الحزن لفقدان أركان كتيبة النبلاء الذين كان الأستاذ أحمد سيف أحدهم، فإن شعور الرثاء المختلط بالاستنكار والدهشة هو أول ما يتملكنا حين نطل على السرادق المنصوب باسم اليسار هذه الأيام خصوما بعدما تحول إلى حليف لليمين. وغدا ذلك «تقدميا»، لكن إلى الوراء.
(نقلا عن بوابة الشرق القطرية 30 آب/ أغسطس 2014)