لم تعد تفجيرات العبوات الناسفة والسيارت المفخخة تطغى وحدها على المشهد الأمني المتدهور في
العراق، فقد أضيفت إليها خلال الأيام القليلة الماضية عمليات من نوع آخر تتمثل بالخطف والقتل على الهوية يقوم بها أشخاص يرتدون بزات عسكرية، ويستقلون سيارة تابعة لأجهزة الأمن العراقية من خلال مداهمة قرى ومناطق، لينفذوا عملياتهم الوحشية الطائفية بحق مواطنين عاديين يمارسون مهنا مختلفة.
ففي قضاء الطارمية الواقع إلى الشمال من بغداد، تعددت أشكال الموت وصوره وأساليبه ليصبح لازمة يومية شبه عادية، إذ باتت عمليات
الخطف والقتل على الهوية السمة الأبرز فيه، وأصبحت اللافتات السود التي تعلن عن الوفيات الطبيعية بالنوبات القلبية المفاجئة والأمراض تزاحم مثيلاتها المعلنة عن الوفاة أو الاستشهاد "جراء حادث مؤسف" أو "حادث جبان غادر".
وفي إحدى القرى التابعة لناحية المشاهدة يسكن الحاج أبو ابراهيم (57 عاما)، يصارع المرض من أجل البقاء على قيد الحياة بعد أن فقد ثلاثة من أبنائه على يد ميليشيات قبل أشهر. ويقول متألما: "قبل أشهر داهمت ميليشيات بأعداد كبيرة بيتي ليلا، وكان أغلب عناصرها يرتدون زي القوات الأمنية العراقية ويستقلون سيارات عسكرية، ومن بينهم ضابط برتبة رائد".
وتابع بأنهم "اقتادوا أولادي الثلاثة محمد وقيس وكريم، وأنا أنظر إليهم دون أن أستيطع فعل أي شيء، فسألت أحد عناصر الميليشيا: لماذا تعتقلون أولادي وإلى أين أنتم ذاهبون؟ فأجاب: اطمئن ياحاج هذا الاعتقال لدواع أمنية وسنطلق سراحهم خلال ساعة بعد استكمال التحقيق معهم".
ويضيف أبو إبراهيم: "تحولت الساعة إلى ساعات، ثم إلى أيام وأسابيع، ومصير أبنائي مازال مجهولا. لم أعلم أين هم، هل قتلوهم أم زجوا بهم داخل المعتقلات السرية".
وبعد مرور أسبوعين اتصل أحد الخاطفين بأبي إبراهيم وأبلغه بأن عليه دفع 50 ألف دولار أمريكي خلال يومين فقط مقابل إطلاق سراحهم، وما حصل أننا لم نتمكن من جمع المبلغ بالوقت المحدد، لنعثر بعدها على جثثهم مقتولين رميا بالرصاص في مزرعة قريبة من قريتنا.
لكن الشاب أحمد المشهداني (30 عاما) والناجي من الاختطاف، يروي تفاصيل خطفه على يد قوة عسكرية مسلحة بين منطقة التاجي وسبع البور بالقرب من العاصمة، يقول متلعثما: "أثناء توجهنا إلى الجامعة لأداء الامتحانات أنا وزملائي، استوقفنا أحد الحواجز الأمنية التي تبين فيما بعد أنها وهمية ولا تتبع للأجهزة الحكومية العراقية، أي إنها لميليشيات بزي عسكري، وكان أغلب الضباط والجنود يضعون على وجوههم أقنعة سوداء".
ويتابع لـ "عربي21" بأنه "تحدث إلينا أحدهم بصوت مرعب قائلا: أخرجوا البطاقات الشخصية فورا. وبعد قائق انزلوني أنا وأصدقائي من السيارة وعصبوا أعيننا واقتادونا إلى مكان مجهول مظلم، بقينا فيه حوالي عشرة أيام من دون طعام أو شراب".
خلال فترة احتجاز أحمد عاش لحظات مرعبة وكان يقول لنفسه دائما إنها النهاية ولحظة انتظار الموت، وبعد أيام معدودة فوجئ هو وأصدقاؤه بحركة غريبة وإطلاق نار كثيف بالقرب منهم، بعدها فتح لهم شباب مدججون بالسلاح الطريق لإخراجهم من المكان الذي كان الخاطفون قد أودعوهم فيه بالقرب من أحد المزارع في منطقة التاجي من أجل قتلهم أو ابتزاز أهلهم.
أحمد، لم يكن يوما مسؤولا في الحكومة السابقة أو تاجرا، ولاحتى صحافيا سيئ الحظ، ولابعثيا.. كل ذنبه أنه ينتمي إلى عشيرة المشاهدة الكبيرة في العراق، لكن ذنبه الأكبر أنه يسكن في منطقة
حزام بغداد في قضاء الطارمية.
ولم تحد الإجراءات الأمنية المشددة والمكثفة من نشر الدوريات في معظم الشوارع بصورة ملحوظة، دون ظهور مشاهد القتل الفردي والجماعي أو حالات الاختطاف التي تعاظم شأنها في الآونة الأخيرة، ما أدى إلى ازدحام المستشفيات بجثث القتلى وأجساد الجرحى والمصابين بإصابات خطيرة بحوادث الخطف والقتل على الهوية.
ويقول الدكتور سنان قيس الطبيب المقيم في مستشفى الطب العدلي في بغداد: "الأيام القيلة الماضية سجلت أعلى نسب لحوادث القتل جراء الاختطاف بشكل مخيف، إذ تستقبل مشرحة المستشفى يوميا جثث المئات من الشباب غالبيتهم من مناطق حزام بغداد، مثل الطارمية واللطيفية والمحمودية وجرف الصخر، بالإضافة الى قتلى التفجيرات اليومية".
ويشير إلى أن ازدياد حالات القتل غدرا بدأت تتسع هذه الأيام بشكل خطير ومخيف ما يعيد بنا الذاكرة الى أعوام 2005- 2006 الدموية.
وعلى مايبدو فإن هذه الحوادث المؤسفة ستظل ظاهرة تضيع معالمها وسط التدهور الأمني متعدد الجوانب ومتنوع الأشكال والأسباب، بسبب الفوضى التي تعيد العراق إلى مربع القتل والتهجير والخراب، ومصدرها فرق الموت التي تغيب ملامحها سريعا وتبقى نتائج أفعالها وحدها في ذاكرة الذين فقدوا أحباءهم على يدها.. وتبقى اللافتات السود التي تملأ جدران الأزقة والشوارع والمكتوب عليها "قتل غدرا" الشاهد الوحيد عليها.