ماذا يعني أن تحتشد عدّة ملايين حول العالم في يوم واحد من أجل
غزة، بعد شهرين تقريباً من التظاهر؟ المغزى أنّ غزة أصبحت أيقونة الأمم، وأن فلسطين لم تعد وحدها في الشقّ الجماهيري من معادلة الصراع.
عبر جولة الأيام الخمسين؛ رفعت الجماهير صوتها في قارّات العالم، حتى تخطّى نطاق التظاهر ضد
العدوان مائتي نقطة في بعض الأيام ضمن أوروبا وحدها. وانتقل التفاعل من نطاق التظاهر الاعتيادي إلى مستوى برامج العمل الضاغطة والفعّالة، مع اتساع حجم المظاهرات في الوقت ذاته.
أخذت المظاهرات أشكال السيول البشرية المتدفقة، أو الاعتصامات المُثابرة، في مشهد إنساني متنوِّع في مكوِّناته ومتّصل عبر العالم من سيدني وكيب تاون، حتى هامبورغ ولندن، ومن أنحاء أمريكا الشمالية حتى مدائن القارة اللاتينية. أمّا الاحتلال فانكشف على عزلته عن شعوب العالم، ولم يجد من يتظاهر له تقريباً سوى عشرات متفرِّقين في ثنايا بعض المدن، غابت عنهم وجوه المجتمع.
لم تكتفِ الجماهير المساندة لفلسطين بالسير في الطرقات أو الاحتشاد في الميادين بلافتاتها وراياتها؛ فقد طوّرت تجاربها في التظاهر والتعبير أسبوعاً بأسبوع. أضفى بعضهم لمسات من الرمزية والتماثل مع ضحايا العدوان، عبر أساليب كالاستلقاء الجماعي أرضاً تعبيراً عن الشهداء الفلسطينيين، وقام آخرون بتحويل مراكز المدن إلى مقابر جماعية تراصّت فيها النعوش الرمزية التي حملت أسماء الشهداء الفلسطينيين.
ولأنّ المواكبة عن بُعد لا تكفي، أقيمت في الساحات العامّة مشاهد الأداء التمثيلي التي عرضت واقع الاحتلال وعدوانه وسلوك الأطراف الدولية بطريقة رمزية، وجسّدت فتياتٌ محنة أطفال فلسطين في تجربة تظاهر انفرادي بدأت في شارع هوليوود الأشهر. واختار بعضهم في لندن وضع صناديق ضيِّقة لمعايشة تجربة حصار غزة الخانق عبر الانزواء داخلها، وليس هذا سوى غيض من فيض.
وتضافراً مع الهبّة الجماهيرية العارمة في العالم الواقعي؛ تفاعلت سجالات ضارية في العالم الافتراضي عبر مواقع الإنترنت والشبكات الاجتماعية، مشفوعة بالتغريدات والصور ومقاطع الفيديو وتصاميم الترميز. قصفت دعاية الاحتلال جماهير الشبكات بموادها النصية والمصوّرة، لترتدّ على عقبيها بأضعاف مضاعفة من المواد التي تجنّدت فيها جيوش الضمائر من أنحاء العالم.
وثمة ما يعزز الانطباع بأنّ دعاية الاحتلال سجّلت إخفاقات ذريعة في هذا الحقل، رغم ما اعتمدت عليه من منظومات فعّالة ذات توجيه مركزي. وبينما انهمكت سفارات الاحتلال في التصرّف كرأس رمح في حرب التضليل؛ تصدّى لها "سفراء فلسطين" من شعوب الأرض التي تفاعلت بقوّة في ميادين العالميْن الواقعي والافتراضي.
ومع توسّع أشكال التظاهر وتنوّعها؛ ازدادت قائمة المطالب وضوحاً وتسديداً، فتحوّلت الحالة الجماهيرية ضد العدوان إلى برامج عمل مطلبية ضاغطة. ونشأت في ميادين التظاهر عبر خمسين يوماً من الاستمرار على الهدف؛ تحالفاتٌ وائتلافات استقرّ بعضها ليتحوّل إلى مشروعات وبرامج دائمة مكرّسة لمواجهة الاحتلال ومحاصرته في بيئات العمل المدني حول العالم.
ويعني ذلك؛ أنّ الموجة لن تنتهي مع هدوء القصف في ختام يومه الحادي والخمسين؛ بل تنفتح على آفاق من التطوّر الذي سيعاقب الاحتلال في حقول شتى؛ من التجارة والاستثمارات حتى الجامعات والبحث العلمي.
وعبر شهرين تقريباً من العدوان؛ تحوّلت قوائم المطالب الجماهيرية عبر أوروبا والعالم، من العناوين العامة كوقف العدوان ورفع الحصار، إلى المطالب المحدّدة التي فرضتها هذه الملايين الغاضبة على المستوى السياسي. هي مطالب جريئة لكنها منطقية، فمنها ما نادى مثلاً بوقف تصدير السلاح إلى الاحتلال، وتجريم تجنّد مواطني العالم في جيشه، وفتح خطوط بحرية مع ميناء غزة. وتزايدت قائمة المطالب تفصيلاً ودقة أسبوعاً بعد أسبوع، وتنزّلت في نسخ محليّة راعت خصوصيات كلّ بلد وطبيعة وشائجه مع الاحتلال
الإسرائيلي.
هكذا تحوّلت الهبّة الجماهيرية حول العالم من نطاق المواقف الرافضة للعدوان إلى خطوات وبرامج عملية. وقد أتاح ذلك نموّاً هائلاً في زمن قياسي لحركات ومبادرات، منها حركات المقاطعة وفرض العقوبات ونزع الاستثمارات عن الاحتلال الإسرائيلي، بما سيفرض ضغوطاً أشدّ على اقتصاد الاحتلال بعد العدوان.
وتوسّعت على أرض الواقع مساعي الملاحقة بدعاوى قانونية، تتعقب جنود الاحتلال من حاملي جنسيات أخرى. تناسخت التجارب والمحاولات في هذا المسار من جنوب أفريقيا؛ إلى السويد التي أدرجت العدالة الجنائية الدولية في نظامها التشريعي مؤخراً.
والأهمّ أنّ الحسّ الجماهيري الضاغط في بلدان عدّة، مال أخيراً إلى التعامل مع الملتحقين بجيش الاحتلال على أنهم مقترفو جرائم حرب، فأصبح التجنّد فيه مادّة مثيرة للتحقيقات الإعلامية التي غضّت الطرف طويلاً عن السلوك الإسرائيلي في الميدان.
تفاعل هذا كلّه وأكثر منه، بقوّة ودأب منذ بدء العدوان على غزة، رغم أنّ موسم الصيف لم يكن الأمثل لهبّات الجماهير، لتعطّل الجامعات والنقابات والبرلمانات، والانصراف التقليدي إلى السياحة و"كأس العالم".
فالهبّة الجماهيرية نهضت سريعاً وتطوّرت بقوّة، وانضمّت إليها شرائح وفئات جديدة، ومع كلّ يوم تواصلت فيه جرائم الحرب ضد الشعب الفلسطيني تعاظمت هذه الموجة الرافضة للاحتلال وعدوانه، فخسر الجانب الإسرائيلي أكثر فأكثر.
لا تنتهي التفاعلات بنهاية القصف. فالخسارة الإسرائيلية بلغت القطاعات التي كانت محسومة في مربّع التأييد التلقائي للاحتلال، كالتجمعات اليهودية وبعض الفئات التي ارتبطت بأواصر متعددة مع برامج ومشروعات إسرائيلية. فلم يسبق أن شهدت التجمّعات اليهودية في أوروبا حالة تململ وحيرة كما هو عليه حالها اليوم، فمزيد من اليهود احتشدوا في مظاهرات التنديد بالعدوان دون أن تتمكّن مظاهرات الأعلام الإسرائيلية من حشد الجماهير. كما توالى خروج شخصيات يهودية عن صمتها لتطلق انتقادات للاحتلال الإسرائيلي وسياساته واعتداءاته، بنبرة "ليس باسمنا".
وليس بعيداً عن هذه التحوّلات تأتي خطوات مثل "اعتذار" حرّرته امرأة يهودية كندية للغزيين وللشعب الفلسطيني ككلّ يوم 20 آب/ أغسطس، استباقاً لإعلان مندد بالعدوان على غزة نشرته "نيويورك تايمز" يوم 23 آب/ أغسطس وحمل توقيع ثلاثمائة شخصية يهودية من بينها أربعون ناجياً من جرائم العهد النازي.
تضافراً مع هذا التحوّل؛ أقدم هولندي طاعن في السنّ على إعادة جائزة إسرائيلية تقلّدها قبل عقود تكريماً لدوره الإنساني في حماية طفلة يهودية من ملاحقات النازية، وأرفق ذلك برسالة للسفير الإسرائيلي في لاهاي يبرِّر فيها خطوته بالفظائع التي يقترفها جيش الاحتلال في غزة,
بدا واضحاً في غمرة هذه التحوّلات؛ أنّ حسّ الجماهير في أوروبا وأرجاء واسعة من العالم، لم يعد مستعداً لمواصلة الصمت والتهاون مع الاحتلال الإسرائيلي وجرائم حربه، فالوقوف مع فلسطين انتقل من خانة التضامن والتعاطف إلى مربّع تبنِّي القضية والانتماء إليها. تفسِّر هذه الإزاحة في المفهوم ذلك الانجراف السريع إلى مظاهرات عارمة منذ أيّام العدوان الأولى، والاستمرار على هذا الموقف الصارم بقوّة طوال الصيف الملتهب.
وبنظرة تاريخية أعمق؛ يمكن اعتبار عدوان 2014 على غزة فصلاً جديداً في حضور فلسطين على خريطة المشهد الإنساني العالمي، وهو ما يمثل تطوّراً فائق الأهمية بموازين الصراع، سيكون له ما بعده بكلّ تأكيد.
* استشاري إعلامي، بروكسيل وفيينا