كتب
رضوان السيد: عندما توفيت والدة الجنرال قاسم
سليماني قبل ثمانية أشهُر، كان الاحتفاءُ بالمناسبة ملكياً، وكأنما هو حفل زفاف أو اعتلاء للعرش، وليس موتاً تُقامُ فيه التعزية ويجري فيه النواح! ولاحظ الحاضرون الحشد الكبير شبه المقيم من مكتب القائد ومن قيادة الحرس الثوري.
أما أولاد عماد مغنية (الحاج رضوان!) فكانوا هناك طوال الوقت، ومنهم من قال إنهم كانوا يقدّمون القهوة والشاي. وبالتوازي مع حدث الوفاة هذا، نشرت الصحف الأميركية تحقيقات ومقالات ومقابلات عن عظمة الجنرال وأنه أهم رجالات الشرق الأوسط. وبلغ من وَلَهِ صحف ومجلات الغرب به أن اعتبرته أحد مظاهر «القوة الناعمة» لإيران، رغم أنه يقاتل في أربعة أو خمسة بلدان عربية وغير عربية عبر أكثر من عقد من الزمان!
وكلُّ هذه الأسطورة حول سليماني والحرس الثوري، والتي استغرق بناؤها أكثر من عقدين، انهارت مرة واحدة بين 10و20 يونيو 2014، عندما استطاع تنظيم «
داعش»، آتياً من سوريا إلى الأنبار وصلاح الدين، أن يحتلّ الموصل ويبعث الرعب في بغداد وأربيل وعواصم أُخرى في المنطقة. كما ارتفعت أعلام «حزب الله» قبل عقد ونصف في عدة بلدان عربية، أرادت معارضاتها إظهار سخطها على أنظمتها؛ كذلك ارتفعت أعلام «داعش» لدى كل المنزعجين من
إيران وحروبها الطائفية بالمنطقة.
وما صدّق الإيرانيون ما حصل بالعراق. فقد دأبوا مع المالكي، طوال السنوات العشر الماضية، على ضرب كل من يرفع رأسه، ليس من السنة والأكراد فقط؛ بل ومن الشيعة أيضاً. وكان التحالف العلني مع إيران لـ«المجلس الأعلى» وآل الحكيم. لكن المخابرات الإيرانية (والأميركيين) آثروا «حزب الدعوة»، وكلٌ لأسبابه الخاصة. وما توفقوا بالجعفري لأنه حريص على بعض الاستقلالية، أما المالكي فيتصف بكل الصفات المطلوبة: الطاعة والقسوة والفهم من الإشارة وصنع العصبية من الأقارب والأعوان، والافتخار بالطائفية والمذهبية. ومن وراء ذلك كلِّه ومن فوقه التفاهم الكامل مع الجنرال سليماني الذي فاوض الأميركيين بالعراق عامي 2006 و2007، وما عاد الإيرانيون بعد تلك المفاوضات محتاجين للاستمرار في التشاور مع دول جوار العراق. كانت الإدارة الأميركية التي أذهلها التمرد السني، قد وضعت كل أوراقها بيد إيران. بل وطلبت من إيران وتركيا التوسط مع بشار الأسد حتى لا يستمرّ في تصدير الإرهاب الأعمى إلى البلاد! والمحادثات التمهيدية بين الأجهزة الأميركية والإيرانية، ما لبثت أن صارت شبه رسمية في عام 2009 و2010.
وبنتيجة تلك المحادثات فهم الإيرانيون أن بوسعهم السيطرة على العراق وسوريا ولبنان. وبذلك فإن سليماني صار استطراداً صاحب السيطرة على المشرق العربي، ويقال إن الأسد قال مرة لأحد العراقيين: ما صدّقنا أننا انتهينا من غازي كنعان حتى طلع لن سليماني بقراراته وضحْكته الصفراء!
لكن الأسد الذي استفزّته تدخلات سليماني، وأغرتْه إكرامات أردوغان؛ ما لبث أن عرف أن سليماني هو الأكثر إفادةً بما لا يقاس! ويقال إن الأسد أجرى محادثات واسعة في أعقاب تمردي درعا وحمص. وقد شملت تلك التشاوُرات كلا من الإيرانيين والروس. وكان الطرفان متأكدين أن الأحداث هذه لن تستمر، وهي لن تهدد النظام. لكنهما نصحا رغم ذلك باستخدام العنف المفرط لسببين: إرهاب المعارضين حتى لا ينتشر التمرد كما انتشر في مصر وتونس واليمن وغيرها. وإنذار الأميركيين والعرب أنّ التلاعُب بالأمن في سوريا ليس مثل التلاعُب في تونس واليمن وليبيا! لكن أحوال النظام السوري تردّت بما لا يُقاسُ خلال أقل من عام؛ مع أن المعارضين ما كانوا يملكون غير القليل من السلاح، فضلا عن غياب القيادة الموحدة أو القادة البارزين. كانت القرى والبلدات تستقل بمجرد الاستيلاء على المخفر أو الحاجز. ووسط الانشقاقات المتكاثرة ما عاد بوسع النظام نشر قواته في كل قرى سوريا وبلداتها. وهكذا وفي أواخر 2012 ألحّ الأسد على سليماني لإعادة تقدير الموقف. واتخذت إيران القرار بزيادة عدد وعديد الحرس الثوري بسوريا، واستقدام «حزب الله» والمليشيات الشيعية بالعراق، إلى دمشق وحمص وجوارهما. وقد لقي نصرالله والعراقيون صعوبات جمة في التجنيد والحشد لنُصرة الأسد، فاستخدموا الوسيلتين: الطائفية والمادية. قالوا لشبان الشيعة إن مزارات آل البيت مهددة من السلفيين الجهاديين، وإن هؤلاء يكفّرون الشيعة وسيهاجمونهم بلبنان والعراق! وبالفعل فإن زُهاء الخمسين ألفاً من المليشيات الشيعية استُقدمت إلى سوريا عبر العراق ولبنان.
ومع أنّ الروس يعظّمون من شأن مشاركتهم دولياً وعلى الأرض في حفظ نظام الأسد؛ لكنهم يُقرُّون بالدور الإيراني الكبير الذي زاد رأس سليماني شموخاً. فهو قد أخمد «الربيع العربي» ليس في سوريا فقط؛ بل في العراق ولبنان أيضاً. وبلغ من ثقته بإخضاع العراق أنه أرسل دواعش من سجن أبو غريب إلى شمال سوريا (بحجة الهرب من السجن)؛ وذلك لكي يتلهوا بمقاتلة الثوار على الأسد، كما فعل الأسد نفسه عندما أطلق سراح مئات المتشددين من السجون لنفس الغرض!
المهمّ أن الاحتجاجات السلمية التي استمرت لأكثر من عام في المحافظات العربية السنية الست بالعراق فشلت في تحقيق أهدافها، وأزالها المالكي بالقوة، ثم مضى إلى انتخابات عجيبة، وزاد القمع ليرغم الجميع على فترته الثالثة. لكن العشائر اتخذت من «داعش» رأس حربة، وتمردت حتى الموصل. وكان ذلك فشلا مدوياً للمالكي ظاهرياً (الذي انهار جيشه)، ولسليماني حقيقةً الذي لم تستطع استخباراته التنبُّؤ بما كان. وحاول سليماني طمأنة المالكي وخامنئي والسيستاني. وأراد إثبات قدرته على «داعش» باستعادة تكريت. لكنه عجز عن ذلك، وسارع المالكي إلى طلب المساعدة الأميركية، والتي أتت ليس للدفاع عنه؛ بل للدفاع عن الأكراد!
ويريد الإيرانيون الآن العودة إلى السياسات السابقة: استغلال القوة الأميركية لضرب التمردات السنية في العراق وسوريا ولبنان. لكن الأميركيين عندهم شروطهم هذه المرة، في العراق وسوريا ولبنان. استبدال المالكي في العراق، وإرضاء الأكراد والسنة، وعدم دخول المليشيات الشيعية إلى المناطق السنية فيما وراء بغداد. وقد سلّم الإيرانيون بذلك، وأعلنوا عن إرادتهم التعاون في ضرب «داعش» بالعراق (وسوريا). ورد الأميركيون أن التعاوُن بالعراق سيكون انتقائياً وعند الحاجة، أما في لبنان فيريدون أن يتوقف «حزب الله» وحلفاؤه عن تعطيل عمل المؤسسات الدستورية! أما في سوريا فلا تعاوُن على الإطلاق. روبرت فورد سفير الولايات المتحدة السابق بسوريا، قال: من الممكن القضاء على «داعش» وإسقاط الأسد في سوريا. و«الجيش الحر» نمتْ قدراته، وهو يستطيع الحلولَ محل الإثنين. وربما كان فورد مبالغاً بعض الشيء، لأنه مغتاظٌ من تخاذُل إدارة أوباما خلال السنوات الثلاث الماضية!
والذي يفتح على قناة «المنار» هذه الأيام، لا يكاد يجد خبراً عن العراق أو سوريا، فكل الأخبار عن الحوثيين باليمن، والانتصارات التي يحققونها، والخسائر التي يتكبدونها! إنها احتيالات على المصائر تبدو في شكوى الإيرانيين والروس من أن الأميركيين لا يتعاونون معهم! وسبحان مغيّر الأحوال!
(الاتحاد الإماراتية)