تعلم المهنة بسرعة عجيبة وأصبح معروفا في سوق
أنطاكيا القديم من قبل كل من يعمل في صناعة الأحذية، فـ"عبادة" الطفل السوري الذي وصل إلى تركيا برفقة أسرته منذ عام ونصف، ولضيق أحوالهم المادية كان لا بد من أن يعمل، وبعد بحث طويل وجد الطفل معملاً صغيراً لصناعة الأحذية بالطريقة اليدوية، وعمل فيه بأجر بسيط جداً.
خلال عمله في تلك المهنة، بدأ عبادة يستوعب طرق التصنيع بسرعة كبيرة أدهشت أصحاب العمل، ولدى بدء العام الدراسي في العام الماضي، أصرت الأسرة على أن يلتحق طفلها بالمدرسة ويترك العمل رغم كل المعاناة المادية التي تمر بها الأسرة. فطلب صاحب العمل من عبادة أن يداوم بشكل جزئي في الصباح الباكر وحتى الظهيرة، وهو موعد انطلاقه إلى مدرسته السورية في أنطاكيا، التي أصبحت مكاناً مزدحماً بعد أن تجاوز عدد اللاجئين السوريين فيها مائة ألف لاجئ.
وبالفعل، أصبح عبادة يجهز حقيبته المدرسية في السابعة صباحاً ويحملها على ظهره متجهاً إلى "الورشة" حسب وصفه لمكان العمل. وعند موعد وصول حافلة المدرسة يغسل يديه الصغيرتين الملوثتين بالمواد اللاصقة بفعل "التنر"، وينطلق مسرعاً ليركب الحافلة باتجاه المدرسة حيث يتلقى الدروس ليعود مساء إلى منزله بكل نشاط، ويتناول عشاءه ويكتب وظائفه ويراجع دروسه. وحتى إتمام ذلك يكون النوم قد باغته لينتهي يومه ويأتي يوم آخر من التعب والإرهاق.
في كل صباح يبدأ عبادة يومه بـ"تقبيل يد أمه"، حيث إنه يحافظ على هذه العادة لقناعته أن ذلك "مصدر للنجاح"، ليستمر روتينه اليومي في أيام الدراسة على هذا المنوال الذي اعتاده عبادة ورضي به تماماً.
وبحسب لاجئين سوريين، تنتشر في مدينة أنطاكيا العديد من
المدارس السورية، معظمها تابعة لجهات سياسية معارضة تحاول زرع قيمها الأخلاقية والدينية والسياسية في نفوس التلاميذ على اختلاف توجهاتها وأيديولوجياتها.. وبالرغم من ذلك فإن تلك المدارس قدمت الكثير للأطفال السوريين الذين كانوا جميعاً سيتحولون إلى أميين بمرور زمن إقامتهم، لاسيما أنه طال أكثر من المتوقع.
وهناك المئات من الأطفال السوريين الذين يعملون إلى جانب دوامهم المدرسي، فمن بيع المناديل إلى بيع عبوات المياه وغير ذلك من أعمال كلها تتعلق بسوق أنطاكيا الذي أصبح أطفال
سوريا جزءا هاما من معالمه، وأحياناً يكون هؤلاء الأطفال أول المتهمين في أية حادثة تحدث داخل السوق، رغم أنهم قد يكونون بعيدين كل البعد عنها.
عبادة نجح في نهاية العام الماضي إلى الصف السادس بتفوق وحصل على الدرجة الأولى بين أقرانه في الصف الخامس، وتابع العمل طوال الصيف، كما أن الطفل أتقن مهنته وبدأت تأتيه عروض العمل من مختلف "الورشات" المتخصصة في صناعة الأحذية في أنطاكيا.
ورغم العروض المغرية، فإنه لم يترك "معلم مهنته"، فقد أحبه لأنه يعامله معاملة حسنة، ويقدم له وجبة الغداء كل يوم مع ليرة تركية واحدة للترفيه، ما عدا الأجرة الأسبوعية التي تبلغ مائة ليرة تركية أيام الصيف وسبعين أيام الدراسة.
ومع بدء العام الدراسي الجديد، بدأ معظم العمال الصغار يتركون أعمالهم ليذهبوا إلى المدرسة، إلا أن أسرة عبادة تفاجأت بالقرار الذي وصل إليه الطفل، حيث قال لوالدته إنه لن يذهب إلى المدرسة لتبقى أجرته مائة ليرة دون أن تنقص، بسبب حاجة أسرته للمال، وبخاصة أن قدرة والده على العمل لم تعد كالسابق بعد أن اعتقله النظام لأربعة شهور متتالية عندما ذهب مؤخراً إلى حلب لقضاء بعض الأعمال، حيث تدهورت صحته بشكل كبير خلال مدة الاعتقال ولم يتحسن إلا بشكل نسبي بعد أن أفرج عنه.
ورغم أن أحد أقارب عبادة وعده بأن يكمل له النقص الذي سيطرأ على أجرته إلا أنه أصر على موقفه، مبينا أن كرامته "كرجل" لا تسمح له بأن يحصل على مساعدات من أحد.
والدة عبادة تقول: "لن أسمح له بترك المدرسة، فمستقبله ليس في صناعة الأحذية، حتى وإن تعلم المهنة، فلا بد أن يستمر في دراسته ويكمل تحصيله العلمي حتى حصوله على شهادة البكالوريا على الأقل، والتي أصبحت في يومنا هذا عبارة عن شهادة محو أمية لا بد للجميع من أن يحصلوا عليها".