كتب عبد الوهاب الأفندي: (1) في مصر رئيس منتخب يقبع في السجن ويزعم أنصاره أنه الرئيس الشرعي الوحيد، وبرلمان كان منتخباً تفرق معظم أعضائه بين السجن والتشريد. وفي مصر كذلك رئيس نصب نفسه بقوة السلاح، ولا يعترف بشرعية سوى
شرعية البندقية. ولكن نفس هذا الرئيس، ومعه دول أخرى لا تتظاهر حتى بمجرد الانتخابات، تدعم «الشرعية» في
ليبيا، وتؤيد البرلمان «المنتخب» وترفض أي اعتراض على "شرعيته".
(2) كما هو حال
مرسي وأنصاره، فإن برلمان ليبيا «الشرعي» وحكومته يقبعان في حبس ومنفى اختياري في مدينة نائية، ومعظم أراضي ليبيا خارج سلطانهما، ومن أهمها العاصمة طرابلس والمدينة الثانية بنغازي. ولكن بخلاف مرسي، فإن معظم القوى الدولية، وكذلك الجيران، وعلى رأسهم النظام
الانقلابي في مصر، يقسمون بشرعية حكومة طبرق وبرلمانها، وهي تشبه شرعية الدلاي لاما، زعيم التبت الذي فر من بلاده منذ أكثر من نصف قرن ولا يزال في المنفى.
(3) لا يحتاج أي متابع للتاريخ العربي الحديث والقديم إلى تذكير بأن دعاوى الشرعية لا يمكن أن تنفصل عن واقع توازن القوى على الأرض. وأي «شرعية» تصبح موضع نزاع تفقد تلقائياً قدراً مهماً من وزنها. وكل شرعية هي في نهاية المطاف نتاج توازن قوى، لأنه ليس هناك شرعية «مطلقة» عند صاحبها سلطان من السماء. فقد طعن كثيرون في شرعية الخلفاء الراشدين وثاروا عليهم، بل وقتلوهم. وقد قبل الإمام علي بن أبي طالب الاستقالة ورد الأمر إلى الأمة تختار من تشاء، رغم «شرعيته»، وذلك لاعتبارات الواقع وحقن دماء المسلمين. وبنفس المنطق عقد الإمام الحسن صفقة مع معاوية لتجنب الاقتتال.
(4) هذا في حال وجود شرعية حقيقة، أما حين تكون دعوى الشرعية نفسها كاذبة، مثل ادعاء بشار الأسد أنه رئيس منتخب، ودعوى المالكي بأن إقصاءه المستحق تعدٍ على الدستور الذي داس عليه بالأقدام، فالأمر يكتسب أبعاداً أخرى. وفي الحالة الليبية، فإن البرلمان «الشرعي» وحكومته المزعومة اتخذا الكذب والنفاق شريعة، كما يحدث عند اتهام دول لا علاقة بالنزاع بالتدخل في «الشأن الليبي»، في نفس الوقت الذي تسكت فيه حكومة الزور والبهتان هذه عن التدخل الأجنبي السافر والمعلوم، بل وتعقد صفقات سرية تسلم البلد عملياً لحكومات أجنبية دكتاتورية تحت مسمى الديمقراطية، بئس الورد المورود.
(5) يزعم أنطوان لحد هذه الحكومة (زعيم الميلشيا المسماة زوراً بعملية «كرامة ليبيا»، والأصح عملية إهانة ليبيا وسومها في سوق النخاسة) أنه جاء لتحرير البلاد من الميليشيات، وهو هدف نبيل لو تحقق له الإجماع السياسي، ولكن أصحاب هذه الدعوى تحولوا إلى شر الميليشيات وأضعفها في نفس الوقت. وقد كان حال ليبيا أفضل بكثير قبل أن تطلع علينا هذه الميليشيا العميلة والبائسة التي تزعم أنها جاءت لتحرير ليبيا.
(6) عالمنا العربي لا تنتهي عجائبه، كما هو حال اليمن غير السعيد الذي تتناوشه بدوره ميليشيات متطرفة من كل لون، وآخرها تصدي ميليشيا طائفية لقضية تخفيض الدعم على المحروقات بغية الانقضاض على السلطة. وتنسى هذه الميليشيا القادمة من عصر ظلامي آخر أن ما يتلقاه اليمن من دعم خارجي يأتي في مجمله من الغرب ودول الخليج. ولو أن ما تتمناه تحقق وهيمنت على السلطة على طريقة حزب نصر الله، فإن كثيراً من اليمنيين سيموتون قتلاً باشتعال الحرب، وجوعاً بقطع الدعم.
(7) إنه حقاً زمانك يا مهازل، وعصر انقلاب المطبوع، حيث أصبح النفاق سيد الفضائل، والكذب إمامها. في هذا العصر، يبكي زعماء المقاومة وسادة الممانعة حرقة لأن واشنطن لم توجه لهم الدعوة للمشاركة في حربها على «الإرهاب» (رغم فخرهم فيما مضى بسجلهم «الإرهابي»). في هذا العصر ينقسم «الإسلاميون» (إلا من رحم ربك) بين «إرهابيين» مفسدين في الأرض، وطغاة لا يقلون فساداً وإفساداً، وفئات من المنافقين ينافسون «الليبراليين» في لعق أحذية الطغاة. في هذا العصر، يتحول «القضاء» إلى عصابة مافيا تمارس الانتقام ضد دعاة الحق والفضيلة، وكل من يجرؤ على مناهضة الظلم، ويسمون فعلهم هذا «عدالة». وفيه أيضاً يتهم كبار الإرهابيين الأبرياء بأنهم إرهابيون، ويصدرون فرمانات التصنيف الإرهابي ضد من يخشونه على إرهابهم وظلمهم وفسادهم.
(8) المفترض بعد إيراد هذا التحليل أن نتقدم بمقترح لمعالجة هذه الأزمة، على طريقة الأمم المتحدة والأطراف الدولية التي تنصح اليمنيين والليبيين وغيرهم بحل مشاكلهم بالحوار. ومن ناحية المبدأ، هذا طرح صحيح، لأن كل مزاعم الشرعية وتهم الإرهاب ليست سوى أسلحة يستخدمها كل طرف لتعزيز موقعه. فالكل عاجز عن إزاحة الطرف الآخر، وكل تأخير للحوار هو إهدار للأرواح والوقت ومقدرات البلاد التي تدمر قبل العودة المحتومة إلى الحوار.
(9) إلا أنني أجدني عازفاً عن تقديم هذه النصيحة، لأن الأطراف المعنية ليست قاصد خير ضل طريقه، وإنما طلاب شر وجدوا بغيتهم. ونحن إن كنا نعظهم معذرة إلى الله، ونذكرهم بتهافت خطابهم المنافق والمراوغ، فإن الأرجح أنهم سيحلون المشكلة بإهلاك أنفسهم وإراحة العباد من شرورهم. وهذه سنة الله في الأرض: «لنهلكن الظالمين».