لم يمر وقت كبير على انقلاب مصر وموقف
السعودية الداعم الرئيسي له حتى جاشت في نفوس الكثيرين أسئلة عن طبيعة وحقيقة الموقف السعودي من ملفات الإسلام السياسي السني، فالسعودية في كل مكان انخرطت في مواجهة المشاريـع "الواقعية" للحركات السنية الإسلامية منذ دعمها لانقلاب الجزائر وقت صعود جبهة الإنقاذ الإسلامية مرورا بمواقفها من حركة حماس في غزة و فروع الإخوان في كل من مصر وسوريا واليمن والكويت والأردن، فالسعودية ترى منذ صعود نجم هذه الحركات الإسلامية واقترابها من مواقع السلطة في بلدانها "الخطر الأكبر" على نظامها الداخلي وسطوتها الخارجية، بل تغاضت الرياض عن خطر المشروع الإيراني قليلا لتتفرغ هي وحليفتها أبوظبي لمواجهة خطر صعود المد الإسلامي السياسي عبر عملية معقدة ومتسلسلة من دعم الثورات المضادة والجيوب العسكرية والأمنية في كل البلاد التي حدث فيها مثل هذا المد .
و إن التقت السعودية والإمارات في مواجهة الصعود الإسلامي بعد ثورات الربيع العربي فيبقى لكل منهما أسبابه الخاصة وإن اشتركا في أسباب أخرى لكن تبقى للسعودية أسبابها الجوهرية المغايرة لأسباب
الإمارات، فالإمارات دوما تؤكد على الخطر "الإسلامي" من حيث هو خطر على الهوية الوطنية الجامعة، فهي ترى في الحركات الإسلامية منظمات متجاوزة للولاء الوطني وفاعلين عابرين للحدود، وفي الأيديولوجيا الإسلامية تهديدا مباشرا لصيغتها الوطنية ولصيغة المنطقة وتتجه الإمارات لتوصيف الحركات الإسلامية بأنها وإن أظهرت احتراما للبنى السياسية التقليدية للدولة القومية الحديثة فإنها تضمر في بنيتها الفكرية والدينية تصورا متجاوزا لهذه الهويات وهادما لها، فلا يمكن في نظر محمد بن زايد و قرينه أنور قرقاش أستاذ العلوم السياسية ورجل الأعمال والسياسي ذو النفوذ هنالك -لايمكن في نظرهم- التعايش بين الدولة ونقيضها في إطار واحد، حيث مرجعية "عَلَم الدولة" و "الحدود الجغرافية" هي الضامن الوحيد لاستقرار الشكل الحالي للمنطقة ولدولها وللإمارات بصفة خاصة، حيث أن مركزية العقد الاجتماعي بها قائم على "الوطن" وفيدراليته وليس على أي شيء آخر.
أما على الجانب الآخر فللمملكة السعودية تخوفات أخرى كبرى هذه التخوفات أبعد مدى من التخوف الإماراتي فالصيغة "الدينية" في العقد الاجتماعي السعودي حاضرة منذ التأسيس وإن تحولت في النهاية إلى مجرد خطاب مشروعية سياسية، إلا أن مركزية الدين في الخطاب "الولائي" السعودي الداخلي أمر مفروغ منه سواء اتفق البعض أم اختلف حول هامشية الوزن الواقعي للدين في توجهات الدولة الخارجية وسلوكها السياسي الداخلي إلا انها في خطاب الشرعية والولاء تصدر الدين كأحد أهم أعمدة مشروعية حكم العائلة الملكية، وإن كانت المملكة قد بدأت بالأخذ بنصيحة محمد بن زايد في مجال التركيز على الهوية الوطنية للمملكة مقابل تخفيض مستوى خطاب المشروعية الدينية، وهذا قد بدا بارزا في احتفالات اليوم الوطني السعودي حيث التركيز على الأبعاد الكرنفالية التقليدية والأزياء التاريخية والصحاري والطبيعة البدوية والجبلية والقلاع التاريخية مقابل تراجع كبير في إبراز الصبغة الإسلامية ومركزية الحرمين في إعلانات اليوم الوطني التلفزيونية، لكن كل هذا لم ينتقل بعد بالوعي الجمعي السعودي باتجاه الهوية الوطنية الخالصة ومازالت مركزية المشروعية الدينية حاضرة وبغزارة .
لذلك يبقى السؤال: مادام أن المملكة لا تنحو منحنى علماني كالإمارات في الموقف من الدين فما مكمن الخطر الفعلي في المشاريع السنية الحركية إذن؟
تعتبر الحركات الإسلامية التي تسعى للوصول للحكم عبر آليات شعبية ورضاء شعبي المنافس الحقيقي للنظام السعودي في المنطقة فالأرضية الدينية السنية للشارع السعودي وتاريخ الاندماج الشعبي السعودي في قضايا إسلامية كبيرة كقضية البوسنة و دعم الأفغان وتوسع حركة الصحوة الإسلامية داخلها في فترة سابقة ومركزية القضايا الإسلامية رسخت في النفسية السعودية تقبلا ضمنيا لأطروحات الإسلام السياسي ففي السعودية لايمكن نقد الإسلام السياسي من حيث كونه مزجا للدين بالسياسة كما تفعل أجهزة الدعاية في مصر أو تونس أو حتى الإمارات فهذه مرحلة غير قابلة للاشتباك لأن هذا المزج يزيد مشروعية هؤلاء ولا ينتقصهم، ولأنه متسق مع الخطاب السائد منذ مرحلة الملك فهد حيث حاول تقوية مرجعيته الدينية لمواجهة النقد الصحوي ضده في ملف استقدام الأمريكان، وبالتالي فالقابلية الداخلية للشارع السعودي قادرة أن تستوعب اطروحات الإسلام السياسي بل وتعتنقها وبالتالي فالنجاح الذي قد يصيب أحد مشاريع الإسلام السياسي في أي دولة مجاورة سيمثل التهديد الأخطر والأكبر للمملكة، فالاشتراك في المرجعية الدينية والافتراق في الإصلاح السياسي وملف الحريات والمشروعية "الشعبية" بجوار المشروعية الدينية سيجعل التعطش الداخلي في المملكة لهذا النوع من التجارب كبير، وبجانب هذا الخطر الداخلي يشكل استشراء تصورات الإسلام السياسي ومشاريعه في المحيط الإقليمي خطرا كبيرا من حيث تغيير منظومة القوى والأحلاف التقليدية وقلب ناموس المنطقة وتراتبيتها.
ونتابع في الجزء الثاني .. علاقة الموقف من الإسلام السني بالموقف السعودي المتراجع من المشاريع الشيعية وإمكانية التفاهم في ملفات متعددة ولماذا لا ترى المملكة مثل هذا الخطر في المنظومة الشيعية، وتطبيقات واقعية في العراق واليمن ومصر حول التوافق السعودي الإيراني فيهما !