عندما دشنت الولايات المتحدة الأمريكية سياسات "الحرب على
الإرهاب" عقب هجمات تنظيم
القاعدة على نيويورك وواشنطن في 11سبتمبر 2001، كان الهدف المعلن يتمثل بالقضاء على تنظيم القاعدة والحركات الجهادية المساندة العابرة للحدود، واليوم تبدو نتائج الحرب على الإرهاب فاشلة تماما، إذ لم تسفر الحرب عن حرمان الإرهابيين المفترضين من ملاذات آمنة وحصارهم وتجفيف مصادر تمويلهم وتدمير إيديولوجيتهم الخطابية ودعايتهم الإلكترونية، ومع قرب انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان نهاية العام الحالي والذي دخلته نهاية 2001، تبدو عودة حركة طالبان وحلفائها من التنظيمات الجهادية والقاعدة مسألة وقت لا أكثر، كما أن نتائج غزو العراق 2003، تحت ذريعة "الحرب على الإرهاب"، ثم الانسحاب 2011، تبدو كارثية، إذ يسطر اليوم تنظيم "الدولة الإسلامية" وحلفائه من الجهاديين العالميين على مساحات واسعة من العراق وسوريا.
لقد برهنت الانتفاضات العربية السلمية بداية 2011، والتي تزامنت مع مقتل زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن في أيار/ مايو 2011، على أن دوافع ومقاصد الفاعلين تستند إلى أسباب عملية تنشد الحرية والعدالة والديمقراطية، فقد كانت إيديولوجيا تنظيم القاعدة العنفية توشك على الأفول والزوال، إلا أن عسكرة الثورات وتدشين الانقلابات على مسارات العملية الديمقراطية، وإحياء الأنظمة السلطوية القمعية، عمل على بعث وإحياء الخيارات العنفية، واستثمرت الجهادية العالمية وتنظيم القاعدة الإخفاقات وفشل عمليات التحول الديمقراطي السلمي بتطوير استراتيجيات جديدة للتمدد والانتشار، وإعادة التموضع في العالمين العربي والإسلامي تقوم على دعامتين أساسيتين الأولى: بناء شبكات شعبوية محلية تحت مسمى "أنصار الشريعة" تمهد لبناء منظومة إقليمية متحدة تتبنى آلية سلمية محلية وتناهض الهيمنة الغربية، وتشكل خزانا لجلب أعضاء جدد لتنظيم لقاعدة، والثانية: المزاوجة بين قتال "العدو القريب" و"العدو البعيد" من خلال "دمج البعد القاعدي" العالمي والمحلي، ولم تعد أجندة الجهادية تقتصر على الأذى والنكاية بل أصبحت تسعى إلى السيطرة والتمكين.
وعقب مرور ثلاثة عشر عاما على أحدث سبتمبر، وأكثر من ثلاث أعوام على "الربيع العربي" باتت القاعدة أشد خطرا وأوسع انتشارا، بعد أن كان تنظيم القاعدة عموما والفرع العراقي خصوصا، يشهد تراجعا واضحا، ويعاني حالة من العزلة والضعف والضمور، ويفتقد إلى الجاذبية الإيديولوجية الضرورية للحشد والتعبئة والتجنيد، وبفتقد إلى الموارد البشرية والمالية اللازمة للصمود، ويفتقر إلى الحاضنة الاجتماعية الأساسية للازدهار والنمو، ولا يتوافر على عمق جغرافي استراتيجي لإسناد حروب الاستنزاف، إلا أن إصرار الأنظمة السلطوبة على قطع مسار الثورات السلمية بالعسكرة والانقلابات، وتعثر العملية السياسية الانتقالية، وإحياء الهويات الطائفية، عمل على تدشين ولادة جديدة لتنظيم القاعده وفروعه الإقليمية.
لقد أصبحت القاعدة لاعبا أساسيا في المنطقة، وأصبح للفرع العراقي دولة إسلامية في العراق والشام، وتغيرت الخرائط الجيوسياسية التقليدية، فحلم "دولة الخلافة" تحول إلى حقيقة واقعية، ولم تعد الدولة افتراضية، فقد أعلن في 29 حزيران/ يونيو 2014 عن قيام دولة "الخلافة"، وتنصيب أبو بكر البغدادي خليفة للمسلمين، بعد سيطرة التنظيم على مساحات شاسعة غرب العراق وشرق سوريا، كما أن استراتيجية القاعدة الجديدة أصبحت أشد وضوحا وأكثر خطورة عقب فشل عمليات التحول الديمقراطي، فقد أسفرت الثورات العربية عن إنهيار بعض الأنظمة السلطوية وإضعاف أخرى معادية للسلفية الجهادية والقاعدة، وساهم غياب بن لادن بتفكك القيادة المركزية والتخطيط العملياتي المعولم وبروز نهج جديد للقاعدة يناهض الغرب والولايات المتحدة بطرائق عديدة، إذ أعادت تمركزها في المنطقة العربية وطوّرت استراتيجية تعتمد على دمج البعدين العالمي والمحلي.
تمكنت سياسات "الحرب على الإرهاب" على مدى سنوات من تحقيق نجاحات محدودة من خلال اعتقال عدد من قيادات القاعدة أمثال: حالد شيخ محمد، وأبو زبيدة، ورمزي بن الشيبة، وسليمان أبو غيث، وغيرهم، واصطياد رؤوس قيادات هامة تنتمي لتنظيم القاعدة؛ أمثال: أبومصعب الزرقاوي، وأبو اليزيد المصري، وأبو حفص المصري، وأبو الليث الليبي، وأنور العولقي، وأبو يحيى الليبي، وعطية عبد الرحمن، وسفيان الشهري، ومختار أبو الزبير، إلا أنها أثبتت فشلها بالقضاء على التنظيم.
كشفت التطورات الأخيرة في العالم العربي عن طبيعة اندماج الأبعاد القاعدية وتمددها، فالفروع الجهادية الإقليمية للقاعدة، التي تطورت تاريخيا من حركات جهادية محلية أصبحت أكثر تحررا من اشتراطات المركزية واللامركزية، وظهرت شبكات وجماعات جديدة تشارك القاعدة في انتمائها الإيديولوجي السلفي الجهادي وأهدافها البعيدة بإقامة الخلافة الإسلامية، ورفع الهيمنة الغربية ومواجهة إسرائيل، وباتت الجهادية العالمية أشد قوة وأكثر جاذبية وأوسع انتشارا:
إن الجهادية العالمية اليوم أشد خطرا وأوسع انتشارا مما كانت عليه منذ أحداث 11 سبتمبر 2001، وتقود الولايات المتحدة اليوم تحالفا دوليا جديدا للقضاء على الحركات الجهادية الصاعدة في العراق وسوريا، إلا أن استراتيجية الحرب على الإرهاب لا تزال تستند إلى المعالجة العسكرية الأمنية الصلبة، وتكتفي بالحديث عن الأسباب والشروط المنتجة للإرهاب دون معالجتها، فقد عادت الأنظمة السلطوية إلى الشرق الأوسط بصورة أكثر قمعا، وتنامت الصراعات الطائفية بشكل حاد، وأصبحت الديمقراطية والحرية والعدالة بعيدة المنال، الأمر الذي استثمرته الجهادية العالمية بالتدليل على صواب نهجها العنيف بالتغيير، وبات خطابها الراديكالي أكثر جاذبية للأجيال الشابة في المنطقة، كما طورت استراتيجياتها ونوعت من تكتيكاتها القتالية.
لقد تطورت الجهادية العالمية وأصبحت القاعدة تسيطر على مساحات واسعة في أماكن عديدة، في العراق وسوريا وليبيا والصومال واليمن وسيناء وفي دول جنوب الصحراء والساحل، وشهدت الجهادية انشطارا إلى نهجين خطرين، أحدهما يتمسك بأجندة القاعدة التقليدية بزعامة أيمن الظواهري، والتي تهدف منذ الإعلان عن تأسيس "الجبهة الإسلامية العالمية لقتال اليهود والصليبيين" عام 1998 إلى قتال الغرب عمومًا والولايات المتحدة خصوصًا باعتبارها حامية للأنظمة العربية الاستبدادية، وراعية لحليفتها الإستراتيجية إسرائيل من جهة، والسعي لتطبيق الشريعة الإسلامية وإقامة الخلافة من جهة أخرى، فمواجهة الغرب ورفع الهيمنة الخارجية، والتصدي للاستبداد وتمكين الشريعة داخليًا، هما ركنا القاعدة الأساسيان.
أما النهج الآخر فيقوده الفرع العراقي المعروف بــ "الدولة الإسلامية ــ داعش" بزعامة أبوبكر البغدادي، وأجندته ترتكز على أولوية مواجهة النفوذ والتوسع الإيراني في المنطقة ومحاربة "المشروع الصفوي" كما تصفه؛ فالأساس الهوياتي (السني ـــ الشيعي) أصبح المحرّك الرئيس لسلوك الفرع العراقي، بينما الأساس المصلحي الجيوسياسي بقي المحرّك الرئيس للقيادة المركزية للقاعدة، أما تمكين الشريعة فهو الهدف المشترك للطرفين.
فشل سياسات الحرب على الإرهاب لا يحتاج إلى تبصر عميق ونظر دقيق، فقد باتت القاعدة والجهادية العالمية تتصدر المشهد في بلدان عديدة، كما أن إيديولوجيتها الخطابية أصبحت أكثر جاذبية، فالاعتماد على المقاربة الأمنية العسكرية الصلبة، وإهمال الأسباب والشروط والظروف الموضوعية التي أنتجت الظاهرة الجهادية، وغياب الحلول السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، أدى إلى نتائج منطقية كارثية، وعلى الرغم من وجود شبه إجماع على أن الفساد والاستبداد وغياب العدالة والإنصاف هي الروافع الأساسية لتمرد البشر، إلا أن سياسات "الحرب على الإرهاب" العالمية المستنسخة محليا، تصر على علاج الأعراض واعتبار العنف "الإرهابوي" اعتباطيا عبثيا عدميا.