حينما تحيل البينات بعض أتباع المحور
الإيراني إلى عقولهم، خاصة هؤلاء الذين رأوا في إيران التجسيد المطلق لقيم العداء للمستكبرين والانتصار للمستضعفين، فإنهم يسفرون عن ارتباك يتفاوتون فيه بالقدر الذي تتفاوت فيه سطوة إله الهوى على قلوبهم، وبحسب ما ينفتح في عقولهم من كوّة على العالم البراني يتفاوت اقترابهم من حقائق ما يجري على الأرض، ومن ثمّ ولأن بعضهم ارتبط بهذا المحور لأسباب مبدئية حينما رأى في إيران قلعة المستضعفين التي تعاند الاستعمار، فإنه مهموم بحل الإشكال بين هذا التصور والأحداث التي تنقضه، خاصة وأن هذه الأحداث تثبت أن المشروع الإيراني وللأسف يرى في عموم الأمة ضدًا أو نقيضًا، أو عقبة ما أفرزت بواكير مشروع مستقل لا يخضع للهيمنات الاستعمارية أو الإقليمية، ولذلك فإن هذا المشروع الإيراني لا يتوانى أن ينحطّ بصورة مريعة من جهة الفعل والممارسة بما يصادم شعاراته الثورية والتحررية والوحدوية التي استثمرها أحسن استثمار في التمكين لنفسه أو في مدّ آفاقه، وهذا الانحطاط أوضح ما يكون اليوم في التلاقي الإيراني الأمريكي في ضرب الحركات الإسلامية السنية، وفي السلوك الإيراني الذي لا يبدو أبدًا مندرجًا في إطار رؤية تتحقق فيها مصلحة عموم الأمة، كما حصل في اليمن والعراق، أو كما دعم الإعلام المحسوب على المحور الإيراني الانقلاب في مصر، وكما اصطف المتمولون المصريون من إيران إلى جانب الانقلاب وكانوا من ركائزه، أما سوريا التي انبنت دعاية المحور إزاءها على ادعاء الحرب الكونية على النظام السوري فإن هذا النظام بدوره يصرح عن اصطفافه في خندق واحد ضد "الإرهاب" إلى جانب الأمريكان وحلفائهم الذين أشبعهم شتمًا!
اللطيف أن بعض أتباع المحور الإيراني يشعرون بالحرج نتيجة استهداف أمريكا للجماعات السنية، بينما تبدو على شيء من الوفاق مع أصحاب شعار "الموت لأميركا"، فيذهبون إلى القول بأن معادلة القوة التي ساهمت إيران في صياغتها في مواجهة أمريكا طوال العقود الثلاثين الماضية هي التي تصوغ بدورها هذه الوقائع اليوم، وهذا وإن كان صحيحًا فإنه لا يقول الحقيقة كاملة، بينما يلحّ آخرون على انتفاء المؤامرة الأمريكية الإيرانية على الجماعات السنية، قائلين أن إيران لا تتحمل مسؤولية انعدام مشروع سني في مقابل مشروعها، وهذا وإن كان صحيحًا أيضًا فإنه لا يلامس الحقيقة أبدًا، ولن يخلو الأمر من المتبجحين بلا خجل في تمظهرات متنوعة!
ليس مهمًا أن يكون التلاقي المصلحي في بعض القضايا ما بين أمريكا وحلفائها وبين إيران نتاج مؤامرة، فالمهم أن هذا التلاقي، وبصرف النظر عن أسبابه، حاصل وبما يضاد الدعاية الإيرانية، وصحيح أن إيران تمكنت من بناء "الإقليم-القاعدة" الذي يستند إليه مشروع التمدد الإيراني، وبمعزل عن السياسات الأمريكية حتى فرضت نفسها كقوة إقليمية على حسابات النظام الدولي، إلا أنها تبدي أحيانًا الاستعداد لخدمة هذا النظام ومساومته على حساب الأمة وقضاياها وبما ينسف دعايتها كلها، كما أن هذا النظام من ناحيته ورغم الحصار الذي فرضه على إيران وتلويحه المستمر باحتمال استهدافها عسكريًا لا يظهر تلك الخشية من المشروع الإيراني كما أظهر إزاء التحولات العربية، وهو أمر يستحق النظر والتأمل.
بالتأكيد لا يمكن الزعم بأن تيار الأمة الرئيسي "أهل
السنة والجماعة" يملك مشروعًا ناجزًا يتبدى في واحدة من دوله أو جماعاته، إلا أنه وبناء على ذلك يمكن إبداء الاستغراب الشديد من الاستهداف الأمريكي المركّز والسريع لهذا التيار بكل تجلياته، حتى التف سريعًا على الحركات الإسلامية السلمية وأسقطها من الحكم بالتحالف مع أدواته في المنطقة، ثم شكّل حلفًا دوليًا للدخول في حرب مفتوحة على المنطقة متذرعًا بضرورة اجتثاث الجماعات الموسومة بالإرهاب، والتي تقاتلها أمريكا في أفغانستان والعراق منذ العام 2001، وهي للمفارقة محسوبة حصرًا على هذا التيار الرئيسي في الأمة، ولا تتضمن الجماعات الشيعية التي تقاتل في سوريا والتي لا زالت تمارس ذات الإجرام الذي تفننت به في العراق منذ العام 2003.
وفي ذلك كله تبدو هذه الجماعات السنية إن سلمية كانت أو عنفية وعلى ما بينها من اختلاف وافتراق، ورغم أنها لا تملك بعدُ مشروعًا مبشرًا، أشدّ خطرًا على أمريكا والنظام الدولي الذي تقوده والإقليمي الذي يتبعها من إيران ومحورها، كما يظهر أنه لا يمكن التسامح أبدًا مع أي محاولة للنهوض في المنطقة العربية، وفي هذا كله تبدو إيران على التقاء جيد مع أمريكا، بل وحلفاء أمريكا، وقد تسرب عن لقاء سابق بين الرئيس الروسي بوتين وبندر بن سلطان، أن هذا الأخير قال له أن مشكلة السعودية في سوريا لم تعد مع إيران وحزب الله، بل مع الجماعات المتطرفة السنية، والتي تشمل حسب التصنيف السعودي المتأخر جماعة الإخوان المسلمين، وهو ما انعكس في إستراتيجية معلنة كما ظهر في أحداث اليمن الأخيرة.
إذن، ورغم أنه لا بد من أخذ القوة الإيرانية، والطريقة التي اشتغلت بها إيران، وما تحصل من نجاحات لها حتى اللحظة بعين الاعتبار، وكذلك الاهتمام بالأسباب الأخرى التي تخص أدوات أمريكا في المنطقة، فإن هذا وحده لا يكفي لتفسير السلوك الأمريكي السريع والعنيف تجاه صعود الإسلاميين السنة بتجلياتهم المختلفة في مجرى الثورات العربية، خاصة إذا كان هذا التيار الرئيسي في الأمة، أي السنة، بهذا التمزق والتشرذم والافتقار إلى المشروع القائد، ما يدفع للبحث عن السؤال المركزي، لماذا تستهدف أمريكا السنة وتخشى صعودهم أكثر من غيرهم رغم ما هم عليه؟!