تبادر في ذهني صورة
الرجل الذي قَدّم قبل
العيد وفي العيد وما زال يُقدّم بعده..
الرجل الذي بدأ التحضير والتجهيز الذهني والنفسي والفعلي ليؤمّن حاجيات أولاده، بدءا من المدرسة وانتهاءً بالعيد، وبعد العيد بالطبع، في دوامة الصرف التي لا تنتهي.
كان هو المسئول الأول في كل شيء، وعليه أن يقدّم قبل أي أحد.. بَدَأ موسم المدارس، وبدأ هو بتجهيز نفسه نفسيا وعمليا، ووفّر لأولاده حاجياتهم، وهو يفكّر كيف له أن يوازي بين حاجاتهم الآن وبعد أيام في فترة العيد، وكيف له أن يقسّم أمواله بحيث لا ينقص عليهم شيء..!
شرد ذهنه كثيرا، خطط، ونظّم، وقسّم.. وبعدها أخذ نفسا عميقا وأرخى يديه وقدميه جالسا على أريكته، يشعر بهدوء نسبي ربما، أو رضى عن ما يفعل.
تابع سيره مع سَيرِ الأيام.. أتى العيد.. حاجيات للأولاد، وللزوجة، وله، وللبيت، ومن بعدها تبدأ قصة "
العيديات"، كم سيعطي لزوجته وأولاده؟ وكم لأخواته وبناتهم، وأحفاده، وفلان قدّم لنا هو وزوجته يوما، وعلينا السداد، وفلانة عرسها اليوم ويجب أن نقدم لها "النقوط" و"نبيّض وجهنا".
وصرف ما بعده صرف.. ممتد إلى مالانهاية لو أرخى الحبل له.
ويقوده همه إلى التفكير بالاستدانة، ليتبعه هم السداد لاحقا، والإرهاق النفسي مقابل ذلك.
تقول له: "أجبر خاطر الولايا"، وتضيف "تصدّق عن مالك، أنفق بلالا ولا تخشَ من ذي العرش إقلالا"، وهو ينفق وينفق.. يأتيه ابنه "بابا بدنا نروح على مطعم"، وتكمل ابنته: "ومن بعدها على الملاهي"، ويأتي الآخر مسرعا: "ليش دار عمي راحوا عالعقبة واحنا لأ؟". يسكت الأب، يتنفس بعمق، ومن حوله الأولاد يتناقشون راسمين صورة بهيّة للفسحة التي يريدون أن تكون مع والدهم. وتختمها
الزوجة بقولها: "خود ولادك ولا تقصر فيهم، كله هالعيد إلي بنشوفك فيه وبتقدر تاخدهم وتفضالنا".
يصمت، ويصمت، وقد "يطبّ على رأسه ساكتا بعد كل هذا".
مكرها أخاك لا بطل، يأخذ أولاده على المطعم والملاهي، ويعتذر عن فكرة الذهاب للعقبة لأنها بالنسبة له ليس ضمن مخططاته لا الآن ولا بعد سنة.
ينتهي العيد، يضع رأسه على الوسادة الخالية من الراحة، المليئة بالديون والهموم، ويتخيّل جيّبه الفارغ إلا قليلا، ويبدأ رحلته من جديد مفكرا في الدوام صباح اليوم التالي بعد عطلة العيد.