عنوان المؤتمر هو
إعمار غزة، ولكن هدفه الرئيسي على الأغلب الأعم هو اختراق غزة، ونزع سلاح المقاومة، وتمكين جماعة اوسلو والتزاماتها وترتيباتها من استرداد السيطرة والسلطة هناك، لتدير القطاع على غرار إدارتها للضفة الغربية، ادارة من الباطن لصالح اسرائيل وأمنها.
وهو الأمر الذي تم التأكيد عليه بوضوح في كل كلمات الوفود الرئيسية المشاركة في المؤتمر، حيث أكدوا جميعا على ضرورة تمكين
السلطة "الشرعية" من إحكام سيطرتها على غزة كشرط للإعمار.
إنه مؤتمر ينعقد على أرضية الأجندة الاسرائيلية ولو لم تحضره اسرائيل بنفسها، مؤتمر يستهدف وضع الخطط والآليات الدولية والإقليمية والعربية، لتنفيذ وتفعيل المطالب الاسرائيلية التي فشلت آلتها الحربية في تحقيقها.
***
إن الدولتين الراعيتين للمؤتمر وصاحبتىي الدعوة الرئيسة له، هما مصر كامب ديفيد المنوطة بمراقبة غزة منذ 2005، والنرويج التي استضافت واحتضنت مفاوضات اوسلو عام 1993، التي عصفت نتائجها بـ 80 % من الحقوق الفلسطينية.
أما أهم الدول الكبرى المشاركة، فهي الولايات المتحدة الامريكية والمملكة المتحدة وفرنسا بالإضافة الى الاتحاد الاوروبي، وكلها باركت العدوان الصهيوني الأخير على غزة، ودافعت عن حق
إسرائيل في الدفاع عن نفسها، وطالبت بنزع سلاح غزة.
وهي ذاتها من أهم الدول المانحة التقليدية للسلطة الفلسطينية المشهورة باسم "المانحين"، التي دأبت على توظيف منحها وأموالها لتصفية القضية الفلسطينية على امتداد أكثر من عشرين عاما.
وغالبية الدول المشاركة الأخرى، إن لم تكن جميعها، من الدول المعترفة بإسرائيل، صراحة أو ضمنا، المباركة لاتفاقيات اوسلو، المصرة على أن الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني هو السلطة، المدينة أو الرافضة للمقاومة وسلاحها ومواقفها الوطنية والسياسية.
وغالبية المنظمات المشاركة، هي إما من المنظمات التابعة والمرتبطة بالحلف الاستعماري الغربي الأمريكي الراعي لإسرائيل القائم منذ الحرب العالمية الثانية، مثل صندوق النقد والبنك الدوليين، وإما من المنظمات التابعة للأمم المتحدة التي تمثل الأداة الدولية الرئيسة في تصفية القضية الفلسطينية على امتداد ما يزيد عن نصف قرن، وإما هي منظمات منزوعة السيادة والقرار والتأثير مثل جامعة الدول العربية.
***
أما عن الإشارات والرسائل التي سبقت عقد المؤتمر فمتعددة:
يأتي على رأسها بالطبع الأساس الذي سيقوم عليه المؤتمر، وفقا لتصريحات أهم الدول المشاركة، وهو القرار1860 لمجلس الأمن الصادر عام 2009 والذي تضمنت نصوصه ما يلي:
• ((وإذ يشير إلى عدم إمكانية التوصل إلى حل دائم للتراع الإسرائيلي - الفلسطيني إلا بالوسائل السلمية....))
• ((وإذ يؤكد من جديد حق جميع دول المنطقة في العيش في سلام داخل حدود آمنة معترف بها دوليا......))
• ((ندعو الدول الأعضاء إلى تكثيف الجهود الرامية لتوفير الترتيبات والضمانات اللازمة في غزة من أجل الحفاظ على وقف دائم لإطلاق النار وصون الهدوء، بما في ذلك منع الاتجار غير المشروع بالأسلحة والذخيرة...))
***
وقبل ذلك كان المشروع الذي قدمته كل من فرنسا وألمانيا وبريطانيا عن رؤيتها للإعمار، بأن يتم تحت إشراف دولي ومنع تسليح
حماس أو فصائل أخرى وتشكيل آلية دولية لمنع دخول المواد الممنوعة للقطاع وضمان عدم وصول مواد مثل الاسمنت والحديد إلى المنظمات الإرهابية واستخدامها فقط لإعادة تأهيل غزة، وضرورة عودة السلطة الفلسطينية والرئيس محمود عباس الى القطاع وإمكانية عودة بعثة المساعدة الحدودية للاتحاد الاوروبي لمعبر رفح إلى جانب الحرس الرئاسي الفلسطيني، وفقا لاتفاقيات المعابر الفلسطينية الإسرائيلية الأوروبية المصرية الموقعة في 2005.
وهو ما يتوافق تماما مع كل التصريحات الصادرة من أبو مازن بعد العدوان، والتي ركزت على توجيه النقد الحاد إلى الأوضاع في غزة وحكومة الظل فيها، وتحميلها مسؤولية العدوان الصهيوني، والـتأكيد على ضرورة توحيد القرار والسلاح والسيطرة على المعابر تحت قيادة السلطة الفلسطينية وحدها.
***
ثم ما صرح به مسؤولون أميركيون كبار الجمعة10 اكتوبر من التشكيك في أن يفي هذا المؤتمر بطلب الفلسطينيين بالحصول على أربعة بلايين دولار لإعادة بناء قطاع غزة، قبل أن تطمئن الدول المانحة إلى استعادة السلطة الفلسطينية للسيطرة على القطاع الذي تهيمن عليه حماس حاليا.
***
بالإضافة إلى ما قامت به إسرائيل بعد العدوان من حشد للتأييد الدولي لإرسال مئات من المراقبين الدوليين(الجواسيس) إلى غزة لمراقبة حركة الإعمار هناك، وضمان عدم وصول أموالها إلى أيدي المقاومة، والحيلولة دون استخدام مواد البناء في إعادة تشييد الأنفاق مرة أخرى.
***
ومن ذلك أيضا التصريح الذي أدلى به رامي الحمد الله رئيس وزراء السلطة الفلسطينية في السابع من سبتمبر الماضي قبل أن يتراجع لاحقا، لتبرير عدم صرفه لمرتبات الموظفين في غزة، حين قال ((تم تحذير الحكومة والبنوك العاملة في الأراضي الفلسطينية أنه في حال دفع هذه الدفعات لحكومة حماس السابقة في غزة سيتم مقاطعة الحكومة والشعب الفلسطيني، وسيتعرض النظام المصرفي الفلسطيني لإشكالية كبيرة تهدد الوضع الفلسطيني العام)).
***
أضف إلى ذلك بعض التصريحات الإسرائيلية الأخيرة على وجود اتفاق وتعاون مصري إسرائيلي لعدم دخول بعض المواد إلى غزة مثل الأنابيب والمخارط ومعدات لف الحديد و السماد و ما يمكن استخدامه في تصنيع الصواريخ لغزة.
ناهيك بالطبع عن الدور المصري التقليدي في مراقبة غزة وفقا لاتفاقية فيلادلفيا الموقعة عام 2005، وما أضيف إليه مؤخرا من تعميق وتكثيف التنسيق الأمني المصري الإسرائيلي، والذي ظهرت آثاره بجلاء في هدم الأنفاق تحت الأرض مع إغلاق المعبر فوق الأرض في سابقة لم يفعلها مبارك ذاته.
وهو الدور الذي أكده عبد الفتاح السيسي في كلمته الافتتاحية لمؤتمر الإعمار، حين أكد على أن الإعمار يقوم على محورين (شرطين)؛ أولهما هو التهدئة الدائمة، والثاني هو ممارسة السلطة الشرعية لصلاحياتها في القطاع.
***
إن الأجواء التي ينعقد فيها مؤتمر الإعمار تذكرنا بذلك الحشد الدولي الرهيب الذي ضم 70 دولة في شرم الشيخ في مارس 1996، بقيادة الرئيس الأمريكي بيل كلينتون وحسني مبارك، تحت عنوان براق هو "القمة الدولية لصانعي السلام في الشرق الأوسط"، والذي كان في حقيقته اجتماع طارئ لنجدة إسرائيل والتصدي للعمليات الاستشهادية الفلسطينية التي نجحت في إيقاع خسائر فادحة في صفوفها.
***
إن تداعي كل هذا العدد من الدول، وعلى الأخص الدول المعادية لفلسطين والمناصرة لإسرائيل، تحت مظلة مزعومة هي إعمار غزة التي دمرتها إسرائيل، هو تداع مريب ومضلل، خاصة بعد حجم التجاهل الذي لاقته القضية الفلسطينية من ذات هذه الدول في الدورة الأخيرة للجمعية العامة للأمم المتحدة المنعقدة بالأمس القريب.
وعلى كل القوى "الوطنية" الفلسطينية والمصرية والعربية، أن تنتبه وتحترس من أن تستدرج إلى المشاركة في تحالف دولي آخر لاختراق غزة ونزع سلاحها وإكراهها على الدخول في التسوية والاعتراف بإسرائيل وتصفية المقاومة، وتوظيف الأموال والمنح والمعونات والدولار لتحقيق ما عجز عنه السلاح الصهيوني بالحرب.
[email protected]