(1)
لا تكاد تنتهي معركة أو توتر بين أي طرف مقاوم ودولة
الاحتلال الصهيوني إلا ويتم استدعاء الحديث عن المفاوضات وأهمية عقد "سلام عادل ووجود حياة مشتركة" بين طرفي النزاع كما قال السيسي في مؤتمر إعادة الإعمار، ومحل الحديث ليس عن احتمالية نجاح التفاوض بقدر ما هو عن كواليسه، أما طبيعته وما يحدث فيه وحتى إشكالاته فلهم مواضع أخرى.
بدأت المفاوضات التي توسط فيها الأمريكيون بين
الفلسطينيين و"
الإسرائيليين" في أواخر الثمانينيات ولا تزال حتى الآن دون جدوى -ولا أود اعتبار ما جرى في أوسلو مجديا- وتجدر الإشارة إلى أن قرار المحتل بقبول التفاوض كان عقب الانتفاضة الأولى 1987، إلا أن انعدام الآثار الفعالة لتهدئة الصراع جعل الأطراف القريبة من المفاوضات تتساءل باستمرار: ما الذي يجعل دولا صغيرة كفلسطين و"إسرائيل" لا ترضخان للضغوط التي تمارس عليهما من الدول الكبرى؟
(2)
قرر وزير الخارجية الأمريكي أن ينال قسطا من الراحة في إحدى مهامه الدبلوماسية إلى بريطانيا وروسيا وإسرائيل من خلال البحث عن ملابس جديدة، فذهب إلى محل فخم للألبسة قرب ساحة بيكاديلي في لندن وسأل الخياط الإنجليزي قائلا: مقابل مئة دولار ما الذي تستطيع أن تصنعه لي؟ فأجابه: ليس الكثير ربما صدرية بدلة.
وعندما ذهب إلى موسكو طرح السؤال ذاته على خياط روسي فأجابه: ربما كنزة. وحين وصل تل أبيب وهو لم ييأس بعد طرح السؤال ذاته على خياط عجوز في محل صغير بشارع ديزنغوف فرد عليه قائلا: بمئة دولار أصنع لك صدرية وكنزة وسترة وحتى سروالين، فأجابه الوزير بانذهال: كيف يمكن لكمية النقود نفسها أن توفر له كل ذلك في "إسرائيل"؟ فقال: الأمر بسيط جدا فأنتم هنا لستم بذلك الحجم الذي تتصورونه.
هذه الطرفة كانت منسوبة لجيمس بيكر وزير الخارجية الأمريكي 1989 : 1992 والذي بدأ أول مفاوضات رسمية بينهما، إلا أنه يصر على نفي نسبتها له.
(3)
منذ أكثر من ربع قرن و "إسرائيل" تدرك جيدا أن حجم الدور الأمريكي (في مسألة الصراع خصوصا) صغير جدا مقارنة بقضايا أخرى يمكن لهم التأثير فيها بشكل أكثر فاعلية، البعض يحيل ذلك للتغلغل اليهودي بأمريكا (AIPAC) وقدرتهم على التأثير السياسي والاقتصادي، إلا أن إلقاء الحمل كله بهذا الشكل تسطيح وتهرب من المسئولية.
وهناك ما يتعلق بروايات المؤامرات الخالدة، عن كون الغرب يُبقي "إسرائيل" بيننا لأجل إضعافنا وتمزيقنا..إلخ، ولا أحسب أننا نحتاجها لنتمزق، ولم يحْكِ لنا التاريخ عن وجودها بين ملوك الطوائف بالأندلس مثلا أو بين الخلفاء الذين تواجدوا في زمان واحد بدول عدة كلهم ينسب لنفسه إمارة المؤمنين، فالتمزق متعلق بالمستقبِل لا المرسِل.
الدور الذي تقوم به الايباك يحتاج لدور مواز لم ينقطع الحديث عن أهميته دون تنفيذ، ودعوى المؤامرات تثير الشفقة أكثر من دفعنا للتفكير في مدى صحتها، فهي حتى وإن كان لها بعض الأثر فالمستسلم يجعلها واقعا برضوخه، والممانع يحيلها لحافز يستجلب به المدد لكسر محاولات الهيمنة.
(4)
في الوقت الذي بدأت فيه إرهاصات تقزّم الدور الأمريكي عندهم، قام السادات بتعظيمه عندنا بشعاره "99? من أوراق اللعبة بيد أمريكا" حينها حدثت التنازلات المهينة، وسار الركب العربي على ذلك حتى الآن.
في "إسرائيل" يرون امتلاكهم لأسلحة الدمار الشامل نقلة هائلة لا تجعلهم دولة صغيرة، وعندنا نرى السعي لمنع "غيرهم" من امتلاكه يجعلنا كبارا، إذ أن حجم الدول بالمنطقة مرتبط برضى الراعي وكونك حليفا له أم من "محور الشر" الذي يرعى الإرهاب.
(5)
الاحتكاك بالمفاوضات منذ وقف إطلاق النار في أكتوبر 1973 وما تبعه من اتفاقيات ومعاهدة وكذلك ممارسات على أكثر من صعيد حتى الوصول لمدريد 1991 أعطى تطورا طفيفا في فهم "لعبة" المفاوضات فقبيل مدريد قال صلاح خلف -أحد أبرز قيادات فتح والذي تم اغتياله بعد ذلك- لأحد أعضاء الوفد الأمريكي "ليس لدى الولايات المتحدة أي قبضة علينا؛ إذ ليس لدينا ما نخسره، نحن كالنسمة، وهم يخافون منا لكوننا قادرين على تسخين أو تبريد الشرق الأوسط بأكمله".
ما قاله خلف صحيح وفيه فهم لطبيعة هذه المفاوضات العبثية، إلا أن فيه أيضا بيانا بعدم استشعار مسئولية حمل قضية بهذا الحجم ولها ارتباط مركزي بأقطار شاسعة من المفاوض الذي تفترض فيه الأمانة على حقوق شعبه، فعدم تحويل التضحيات التي يقدمها الشعب لنتائج ملموسة تخفف عنه الاحتلال بما يحمله من معاناة في كل مناحي حياته، تقول أن كل الغرض هو الاستمرار في اللعبة وإن لم تكن ذات جدوى والأهم الاحتفاظ بالمميزات الممنوحة للاعبين.