هائل وعميق ما خطه أهل
تونس بدمائهم فجر السابع عشر من شهر ديسمبر من سنة 2010. فقراء القصرين وسيدي بوزيد وتالة وسليانة وبوزيان والرقاب من مدن الشمال الغربي و قراه الغارقة في الفقر والتهميش والاحتقار أنجزوا ما لم تجرؤ نخب الأيديولوجيا السياسية والأحزاب التونسية حتى على التفكير فيه. إنجاز
الثورة وقطع رأس النظام عمل جبار على كل المستويات مكن التونسيين من نسائم الحرية التي ينعمون بها اليوم. لكن الثورة الحقيقية لن تكون إلا بإنجاز الشعارات التي رفعها الثوار أو قل بإنجاز بعض ما من أجله سقط الشهداء.
الوصول إلى مرحلة
الانتخابات نصر كبير في حد ذاته للشعب والثورة والشهداء والربيع العربي. الوصول إلى المرحلة الانتخابات يعني فشل الدولة العميقة والثورة المضادة في تحقيق الانقلاب على الثورة مثلما حدث في مصر من عزل للرئيس المنتخب وقتل للمصرين وحرقهم أحياء في الشوارع والساحات. الانتخابات التشريعية القادمة نهاية هذا الشهر ستحدد ملامح البرلمان أو مجلس نواب الشعب لفترة تمتد لخمس سنوات وهو مجلس سيتحمل مسؤولية ثقيلة خاصة على المستويين الاقتصادي والاجتماعي. فأمام التراكم الهائل لسنوات الفساد والتفقير وعقود التهميش وتجريف الوعي والثروات لن تكون مهمة الإقلاع الاقتصادي والاجتماعي سهلة أمام التحديات الكبيرة التي تنتظر البلاد.
الثورة الحقيقية هي تحويل الرصيد الثوري إلى رصيد اقتصادي واجتماعي يحقق كرامة الفرد ويقضي على "عصابة السرّاق" كما هتف ذات شتاء شباب سيدي بوزيد "التشغيل استحقاق يا عصابة السرّاق". تحقيق كرامة الإنسان بالشغل والعدالة الاجتماعية ومحاربة الفساد والرشوة والسطو المنظم على مكاسب الشعب والأمة هو حجر الزاوية في مشروع الربيع العربي. فلقد تحول الفساد في المنطقة العربية إلى دولة داخل الدولة بل لا نبالغ إن قلنا إن الفساد هو الدولة وأن هياكل الدولة إنما جاءت لخدمة هذا الفساد وحراسته. من هنا فإن محاربة خلايا هذا السرطان المستشري في جسد الأمة عن طريق تفكيك الشبكات والعصابات الراعية له إنما يشكل الحجرة الأولى في طريق الثورة الحقيقية.
تحقيق أهداف الثورة هو المطلب الأساسي لكل الأحزاب والحركات الثورية في تونس رغم صمود الدولة العميقة في الداخل ومجمل المؤامرات التي تحاك في الخارج بمال عربي خليجي للأسف الشديد من طرف الدول الراعية للانقلابات. تحقيق هذه الأهداف هو أيضا مطلب الجماهير التي أنجزت الثورة وحققت هذا التحول الكبير في واقع البلاد والمنطقة. فجزء كبير بل أساسي من أسباب الثورة التونسية إنما يعود إلى سياسة التهميش والاحتقار التي انتهجها بورقيبة ومن بعده بن علي على رأس البلاد خلال الوكالتين الأولى والثانية من 1956 تاريخ ما سمي بالاستقلال أو حقبة الاستبداد الأولى إلى حدود الانقلاب الطبي للرئيس الهارب بن علي يوم 7 نوفمبر 1987 ثم تلتهما حقبة الاستبداد الثانية بداية من 1987 إلى يوم 17 ديسمبر 1987 واندلاع ثورة الكرامة المباركة.
الانتخابات الرئاسية التي تعقب التشريعيات بشهر تقريبا ستكون مصيرية هي الأخرى في تحديد مستقبل البلاد والمنطقة خاصة وأن مؤسسة الرئاسة كانت في مرمى نيران الثورة المضادة منذ انتخاب الرئيس المرزوقي ثم تضاعفت حدتها بعد خروج حركة النهضة من الحكومة اثر اغتيال الشهيد شكري بلعيد عندما كانت الثورة المضادة على أشدها. الرئاسة أبطلت انقلابين حقيقيين وأنقذت البلاد من الغرق في الفوضى في صيف 2013 عندما كان الانقلابيون في أوج حركتهم نسجا على الانقلاب المصري. حركة المقاومة الصلبة التي أبداها الرئيس المرزوقي عندما صرح علنا بأنه "لن يسلم السلطة إلا لرئيس شرعي منتخب من طرف الشعب" خيبت آمال الانقلابيين عندما كانوا ينتظرون انسحابه من قصر قرطاج نسجا على منوال حركة النهضة التي رضيت بحكومة التكنقراط تحت قصف مدفعيات "إعلام العار الوطني" المتحالفة مع عصابات "دولة الاتحاد العام للشغل" أو "داعش تونس" كما يسميها شباب الثورة في مهد الربيع العربي.
إنجاح العملية الانتخابية هو المطلب المباشر في تونس اليوم عبر محاربة المال السياسي الفاسد الذي يصل يوميا إلى أرض إفريقية وعبر مراقبة نزاهة الانتخابات نفسها حتى لا نسقط في عمليات تزوير واسعة لإرادة الشعب ولأصوات الناخبين. نجاح هذه العملية هو لحظة الانطلاق الحقيقية لثورة الكرامة عبرها تخرج تونس من المرحلة الانتقالية وهي المرحلة الأخطر في عمر الثورات لتعبر إلى مرحلة بناء الدولة الحقيقية بعد كنس أنقاض الاستبداد وأطلاله وهي جوهر الحركة الثورية باعتبارها النتيجة الطبيعية لحركة الجماهير ولإرادتها.
إذا نجح التونسيون في تجاوز هذه العقبة الكأداء على طريق الحرية والكرامة فهم يؤسسون لواحدة من أنصع الصفحات في تاريخ التجربة السياسية العربية، وهي تجربة ستفتح الباب أمام وعي عربي جديد بكرامة الإنسان وبقدرته على صناعة المستقبل وتجاوز أحلك فترات تاريخه المعاصر.