لم تكن ثمة «بابوية»، بالمعنى المسيحي والكهنوتي المركزي، في تاريخ
السلطة الدينية والسياسية في الإسلام: أي بابوية دينية تتمتع بقوة معنوية باذخة وتحتكر «القول الفصل» في المسائل الدينية. وبعد الفترة النبوية والراشدية سرعان ما تعددت المدارس الفقهية والفكرية وتنوعت الاجتهادات، ولم يمتلك أيٌّ منها القدرة الدينية والرمزية على انتزاع حصرية النطق باسم الإسلام. وتاريخياً، لم يتم النظر إلى ذلك التنوع في الاجتهاد والتعدد في المدارس الفقهية والفكرية من منظور سلبي، إذ انتظم كله في منظور توكيد الأثر من أن «اختلاف أمتي رحمة». ولطالما تم النظر إلى تلك الحقيقة التاريخية، أي غياب السلطة الدينية
المركزية الصارمة، وسيروراتها المتنوعة نظرة قوامها الاعتداد، تؤشر إلى غياب طبقة رجال دين، إكليريوس، تتحكم في مصائر الناس. ما هو موجود، بحسب تلك النظرة، هو علماء دين لا يختلفون كثيراً عن الناس العاديين إلا بتفقههم في الدين وانكبابهم الطوعي على ذلك التفقه، بيد أنه تفقه لا يخولهم امتلاك سلطة دينية مفروضة على الآخرين.
ويعود ذلك إلى طبيعة الدين التحررية لحظة تأسسه، ومن خلال نصوصه المقدسة، ثم عبر ترسيمه طبيعة العلاقة المباشرة بين الأفراد والخالق. ولم تكن الأمور في مختلف العصور والحقب وردية وزاهية ومتسقة بالضرورة مع ذلك الفهم التأسيسي، حيث يتعايش التعدد الفقهي والفكري بسلام واحترام متبادل، فقد تدخلت السياسة بكل سلبياتها. ومع تدخلها تعاقبت فترات طويلة ومتناثرة هنا وهناك تمكنت فيها السلطة السياسية من السيطرة على التعددية الفكرية والفقهية، وتخليق مركزية دينية تابعة للسلطة السياسية مباشرة. وكان الهدف من إحكام القبضة السياسية على تعددية الفهم الديني ضمان المشروعية السياسية وضبط العلماء والفقهاء والمفكرين والمتكلمين وفق رؤية وحكم فقهي واحد مناطه الإقرار بشرعية الحكم. وإن قبلت مدرسة فقهية ما إكراهات الحكم ومنحته في المقابل المشروعية الدينية لحكمه، قد تتطور إثرته لها على غيرها إلى قمع لهم، وتطهير للساحة من المخالفين للمدرسة الفقهية المتحالفة مع السياسة والنخبة الحاكمة.
وبرغم وطأة السياسة على الدين في التاريخ الإسلامي وتوظيف الأولى للثاني، بقيت التعددية الدينية والفقهية والفكرية عصية على أي نوع من المركزية المطلقة للسلطة الدينية. وربما أمكن القول إن الفترات الأكثر رسوخاً في جانب السلطة الزمنية، السياسية، حيث تتمازج القوة المعبر عنها بالفتوحات مع التقدم والازدهار الداخلي، شهدت أكثر المحاولات وأنجحها نسبياً لمركزة السلطة الدينية (مثلاً في عصر الازدهار العباسي في عهد المأمون، وفي عصور الازدهار العثماني -السليماني- والأندلسي)، وربما تطورت معها «شبه مركزية دينية».
وإذا كان غياب مركزية السلطة الدينية في التاريخ الإسلامي أبقى على فضاءات واسعة لإنتاج أفكار وفقه واجتهادات متنوعة ومتنافسة، فإن ذات الغياب أنتج دوماً جماعات وتيارات تقع على أقصى يمين التطرف والتعصب وتكفير بقية المسلمين. وهكذا، ظهرت «جماعات» كثيرة تزعم أنها «الفرقة الناجية» وغيرها «هالك». ولكن سطوة الدول الإسلامية المتنوعة، والنجاحات المتفاوتة لتلك الدول، كانت تحرم تلك الجماعات من المضي قُدماً في الطريق الطويل والوعر لامتلاك حصرية النطق باسم المسلمين. ولأن تلك الجماعات وخطاباتها بقيت على هوامش الحركة العريضة للمجتمعات المسلمة ونخبها الحاكمة، لذلك لم تؤثر جوهرياً في الوسط العام. ولأنها بقيت هامشية وضعيفة فإن الفكرة الأساسية حول تغلب الجوانب الإيجابية على تلك السلبية لغياب السلطة الدينية المركزية بقيت هي الرائجة.
وفي العصر الحديث، وتحديداً بعد انهيار الخلافة العثمانية التي بقيت على ضعفها تمثل السلطة الرمزية لكثير من المسلمين، تفتتت السلطة الدينية الملحقة بها والتي كانت تمنحها الشرعية من ناحية، وتضعِف من ناحية أخرى أي نزعات جماعاتية هامشية تطرح نفسها كسلطة بديلة، أو كصوت حصري ناطق باسم الإسلام. ومع تفتت تلك السلطة، وهي آخر ما تبقى من سلطات شبه مركزية، انداح المجال واسعاً أمام جماعات وحركات وخطابات دينية متنوعة المنابع والأفهام، قفزت لملء الفراغ الناجم عن غياب السلطة الدينية العثمانية التي كانت أصلاً هشة وغير متحكمة بالفضاء الديني بشكل إجمالي. وترافق بروز تلك الجماعات، التي صارت تعرف بحركات الإسلام السياسي في عشرينيات القرن الماضي، مع بروز شكل جديد للتسيس الاجتماعي والجغرافي والديموغرافي في «دار الإسلام» تمثل في «الدولة الوطنية». فهنا، وتبعاً لإيقاع عالمي سريع وشامل انهارت فيه امبرطوريات أوروبا، انهارت أيضاً فكرة «الخلافة»، وورثتها دول أصغر حجماً، ترتكز على مفاهيم جديدة توافقت عليها أمم العالم، أهمها مفهوما «السيادة» و«المواطنة». وهما مفهومان تطورا بعيداً عن أي تقعيد ديني، وحددا جغرافيات، لا يجوز التدخل فيها. فهنا وفي الدول الناشئة جديداً يتساوى الجميع أمام القانون والدستور.
ولم تكن هذه التغييرات الحادة الجذرية في بنية التكوين السياسي الإسلامي بالشيء السهل تقبله وهضمه وفي فترة زمنية وجيزة. وفي فترة الانتقال المتوتر هذه، من شكل سياسي قديم إلى آخر حديث، تفاقم أثر غياب سلطة مركزية دينية، مع غياب أي سلطة مركزية سياسية، ووفر ذلك كله ولا يزال يوفر أرضية لبروز كل أشكال الخطابات والجماعات المتطرفة التي تدعي النطق باسم الدين، من «الإخوان المسلمين» إلى «داعش». لقد شهدت بلدان وشعوب العالم العربي والإسلامي تاريخاً حافلاً يمكن أن يُقرأ من زاوية غياب السلطة الدينية المركزية. وهو غياب يثير اليوم سؤالاً عميقاً: هل تحول ذلك الغياب الذي كان إيجابياً وضامناً للتنوع والتعددية، إلى مُسبب للفوضى الدينية والسياسية تلحق الدمار بالشعوب، أكثر من أي شيء آخر؟
(الاتحاد الإماراتية)