على الرغم من تواصل الهجمات الجوية لقوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة ضد تنظيم "الدولة الإسلامية" في العراق وسوريا، إلا أن التقارير الأمريكية والأوروبية تشير إلى زيادة هائلة في عدد المقاتلين الأجانب في صفوق التنظيم، وهي تقدم أرقاما لأعدادهم تقترب من حدود الخرافة والأسطورة، فقد أوردت صحيفة الـ"واشنطن بوست" نقلا عن مسؤولين أميركيين قولهم إن هناك ما يقرب من 1000 مقاتل أجنبي يعبرون الحدود إلى
سوريا والعراق؛ للانضمام لتنظيم الدولة الإسلامية في الشهر، على الرغم من الغارات الجوية والضربات المتكررة التي يتعرض لها التنظيم في العراق وسوريا، والجهود التي تقوم بها الدول الغربية والمحيطة بسوريا للحد من تدفق المقاتلين.
بعيدا عن حديث الخرافات والأساطير فإن أعداد المقاتلين العرب والأجانب تقع في حدود 13000 متطوّع من 81 دولة مُختلفة، نصيب الدول الأوروبية منهم حوالي 2000 مقاتل، وقد قتل منهم حوالي 1500 مقاتل، وهذه الأرقام هي للعرب والأجانب الذين يقاتلون في صفوف الفصائل السورية المسلحة عموما، وخصوصا الفصائل الإسلامية كجبهة النصرة وكتائب المهاجرين المستقلة، وفي صفوف تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا، أما المقاتلين العرب والأجانب الذين يقاتلون إلى جانب نظام الأسد، من المليشيات الشيعية العراقية والمليشيات الشيعية المختلطة وحزب الله اللبناني فتقارب أعدادهم 15000 مقاتل.
مع ذلك فإن "جبهة" سوريا تعتبر الأكثر جذبا للمقاتلين العرب والأجانب تاريخيا، فالجبهة الأفغانية استقطبت بين أعوام 1979-1992، حوالي 5000 مقاتل عربي وأجنبي، أما الجبهة العراقية فقد استقطبت في الفترة بين 2003-2007، حوالي 4000 مقاتل من العرب.
ويمكن تفسير زيادة أعداد المقاتلين العرب والأجانب المتطوعين للقتال في سوريا بجملة من الأسباب ومن أهمها: سهولة السفر عن طريق تركيا كونها وجهة سياحية مفضلة، ووجود شبكات دعم وإسناد محلية لديها خبرات واسعة، سهولة التجنيد عبر وسائل التواصل الاجتماعي، الصدع والانقسام السني الشيعي والتعاطف والتلاحم الهوياتي الديني، وجاذبية الجهاد الشامي بحكم الجغرافية الخلابة والمدهشة، وعامل الجذب الديني ــ التاريخي وارتباط الشام بالملاحم والفتن آخر الزمان، وهاجس فكرة الخلافة الإسلامية ومقرها التاريخي في دمشق.
العامل الأبرز يتمثل في حالة الاستقطاب السني الشيعي على أساس الهوية الدينية، وحالة الصراع السياسية بين المشاريع المختلفة في المنطقة بين المحور الإيراني والمحور التركي والمحور العربي ــ الخليجي، إذ تكّون حلف شيعي مقاتل متحد من طهران حتى الضاحية الجنوبية بمشاركة وإشراف الحرس الثوري الإيراني وعبر أذرعه الضاربة من المليشيات الشيعية في العالم وخصوصا العراقية وحزب الله اللبناني بالقتال إلى جانب الأسد، على الجانب الآخر ساند المحور العربي الخليجي والتركي انتفاضة الشعب السوري، وذلك عن طريق دعم وإسناد المقاتلين السنة وإحياء الهوية السنية ومشاعر الانتماء والتلاحم، دون إشراف مباشر وقيادة معروفة، الأمر الذي استثمرته الجهادية العالمية بتأسيس جبهة جهادية واسعة أسفرت عن ولادة جهادية ثالثة بعد أفغانستان والعراق.
لم يكن أغلب المتطوعين العرب والأجانب الذين ذهبوا للقتال في سوريا يتوافرون على انتماءات سلفية جهادية صريحة، بل ذهب أكثرهم استجابة للدعاية والتعبئة والوعظ والفتاوى التي صدرت عن مؤسسات سياسية ودينية وإعلامية رسمية وشعبية عربية خليجية، فمنذ انطلاق الثورة السورية السلمية في منتصف آذار/ مارس 2011، التي تحولت بعد 7 أشهر إلى ثورة مسلحة عقب عمليات القمع والقتل الممنهج للنظام الفاشي الأسدي، صدرت مئات الفتاوى والتصريحات الداعية لنصرة الشعب السوري والجهاد ضد نظام الأسد، ويمكن رصد عشرات المؤتمرات ومئات الفتاوى الجهادية السنية مع بدء الحراك المسلح، فعلى سبيل المثال أعلن بيان "رابطة علماء المسلمين" خلال المؤتمر الذي عقد في يونيو/حزيران 2013 تحت عنوان "دور العلماء في نصرة سورية" عن "وجوب الجهاد لنصرة إخواننا في سوريا، بالنفس والمال والسلاح، وكل أنواع الجهاد والنصرة وما من شأنه إنقاذ الشعب السوري من قبضة النظام الطائفي".
أما هيئة كبار العلماء في السعودية فقد صرحت خلال الدورة الثامنة والسبعين في 26 حزيران/ يونيو 2013 بالقول: "إن الهيئة لتؤكد على وجوب اتخاذ خطوات عملية ضد الحزب الطائفي المقيت المسمى بـ"حزب الله" ومن يقف وراءه أو يشايعه على إجرامه تردعه من هذا العدوان، فهو حزب عميل لا يرقب في مؤمن إلاً ولا ذمة".
لقد ذهب أغلب المقاتلين العرب والأجانب للقتال في سوريا استجابة للفتاوى والتعبئة الإيديولوجية، بل وبدعم وإسناد مجموعة دول "أصدقاء سوريا"، وبسبب غياب أي خطة استراتيجية باستثناء لعبة توازن القوى التي بنيَت على أسس هوياتية مذهبية طائفية، استقطبت الجماعات الجهادية معظم المقاتلين الذين باتت جبهة النصرة وجهتهم المفضلة نظرا لسمعتها القتالية وخدماتها الإنسانية، إلا أن قرار الولايات المتحدة تصنيف الجماعة على أنها منظمة
إرهابية في 11 كانون الأول/ ديسمبر 2012، واعتبارها امتدادا لـتنظيم "القاعدة في العراق"، دفعها بعد الخلاف مع الفرع العراقي إلى الانضمام إلى تنظيم القاعدة فعليا في 10 نيسان/ إبريل 2013، وعلى الرغم من اعتراض الفصائل السورية المقاتلة على التصنيف، وكذلك "المجلس الوطني السوري"، الذي كان ممثلاً سياسيا للثورة آنذاك، فضلا عن عموم الشعب السوري الذي خرج مندد بالقرار، إلا أن نتائج التصنيف كانت حاسمة في نهاية الأمر، ببدء تصاعد الحديث حول الإرهاب وتراجع الحديث عن إسقاط نظام الأسد.
ومن أبرز الفصائل الجهادية التي شكلها المقاتلون العرب والأجانب: جيش المجاهدين والأنصار، وهي مجموعة تشكلت في مارس/ آذار 2013 من وحدات جهادية عديدة، وتضم المئات من المقاتلين الأجانب، أغلبهم من شمال القوقاز، وفي كانون الثاني 2014 أعلن "تحالف المهاجرين والأنصار" الذي يضم إلى جانب جند الأقصى لواء الأمة ولواء الحق في إدلب ولواء عمر، ومن أبرز المجموعات الكتيبة الخضراء، وصقور العز، وشام الإسلام، ولواء الأمة، وتعتبر "جبهة أنصار الدين" التي أعلن عن تأسيسها في 25 تموز/ يوليو 2014 من أكبر الفصائل الجهادية للمقاتلين العرب والأجانب وتتكون من ائتلاف يضم أربعة فصائل وهي: حركة شام الإسلام، جيش المهاجرين و الأنصار، حركة فجر الشام الإسلامية، الكتيبة الخضراء.
في نهاية المطاف تحول المتطوعون للقتال في سوريا إلى "إرهابيين"، وباتوا يشكلون خطرا فعليا، فالسياسات الخاطئة دفعتهم في النهاية إلى تنظيم "الدولة الإسلامية" الأشد عنفا والأكثر تشددا، وأصبحوا الأهداف المفضلة لغارات قوات التحالف، وذريعة لسلسلة من الإجراءات القانونية المتعلقة بـالحرب على "الإرهاب"، إذ أزالت المملكة المتحدة المواد المخصصة للتجنيد عن شبكة الإنترنت، كما تنفق وزارة الخارجية والكومنولث المال على برنامج تواصل اجتماعي هدفه ردع المواطنين البريطانيين عن السفر إلى سوريا للمشاركة في القتال، وأطلقت فرنسا برنامجاً جديداً لمكافحة التطرف في تشرين الأول/ أكتوبر 2013، وأعلنت مؤخراً عن توسيع البرنامج ليضم عشرين إجراءً إضافياً، من بينها خطة لمنع القاصرين من مغادرة فرنسا دون موافقة أولياء أمورهم؛ وتشديد الرقابة على المواقع الإسلامية التي تجند المقاتلين، وحظرت ألمانيا ثلاث منظمات سلفية مختلفة لتوفيرها شبكات التجنيد للجماعات التي تقاتل في سوريا، ومنعت هولندا عدداً من المقاتلين المحددين من العودة إلى ديارهم واستخدمت أصفاد القدمين لتعقّب أولئك الذين عادوا من سوريا كما جرّمت استعدادات السفر إلى سوريا للمشاركة في الجهاد، وقامت بعض الدول كأستراليا بسحب جوازات السفر من المواطنين لمنعهم من الالتحاق بالقتال في سوريا أو من العودة إلى ديارهم وشرعت قوانين مثل سحب الجوازات أو منعهم من العودة، وهناك من اقترح محاكمتهم بتهمة الخيانة العظمى.
في العالم العربي كانت النتائج كارثية فالدول التي عملت على دعم وإسناد المتطوعين وأصدرت الفتاوى بوجوب الجهاد، اتخذت سلسلة من الإجراءات والقوانين الصارمة المتعلقة بــ "الإرهاب"، وبات الحديث عن الديمقراطية والإصلاح شيئا من الماضي، فقد وسعت حكومة الانقلاب العسكري في مصر مفهوم "الإرهاب" ليطال حركات الإسلام السياسي وممثله الأبرز جماعة "الإخوان المسلمون"، حيث قرر مجلس وزراء الانقلاب في مصر بتاريخ 25 كانون أول/ ديسمبر 2013 اعتبار جماعة الإخوان المسلمين جماعة إرهابية وتنظيمها تنظيمًا إرهابيًا. كما طالت تهمة الإرهاب في مصر حركة حماس، فقد أصدرت محكمة القاهرة للأمور المستعجلة يوم الثلاثاء 4 آذار/ مارس 2014 قرارا بالتحفظ على مقرات حركة حماس وحظر أنشطتها، استنادا إلى دعوى أن حركة حماس تحولت من حركة مقاومة إلى منظمة "إرهابية"، نظرا لارتباط الحركة بعلاقات مع جماعة الإخوان المسلمين في مصر.
كما أعادت دول عربية عديدة النظر في قوانين "الإرهاب" بحيث تضمنت عملية "الالتحاق أو حتى محاولة الالتحاق بأي جماعة مسلحة أو تنظيمات إرهابية أو تجنيد أو محاولة تجنيد أشخاص للالتحاق بها وتدريبهم لهذه الغاية سواء داخل هذه البلدان أو خارجها"، ففي السعودية صدر قانون جديد باسم "قانون الإرهاب" بتاريخ 31 كانون الثاني/ يناير 2014، ودخل حيز التنفيذ في 1 شباط/ فبراير 20.14، وهو نسخة مشددة عن مسودة قانون الإرهاب لعام 2011، وفي الأردن أحالت الحكومة الأردنية إلى مجلس النواب في 4 آذار/ مارس 2014 قانونا معدلا لقانون لمكافحة الإرهاب، أعادت فيه تعريف الإرهاب الوارد في القانون الأصلي رقم 55 لسنة 2006.
لقد ساهمت السياسات الدولية والإقليمية والوطنية في خلق حالة من رهاب المقاتلين العرب والأجانب، فأغلب المتطوعين للقتال في سوريا ذهبوا بناءً على دعم وإسناد حكوماتهم وفتاوى مؤسساتهم الدينية الرسمية بوجوب جهاد نظام الأسد "الطائفي الفاشي"، لكنها سرعان ما حولتهم إلى "إرهابيين" دون تمييز، وحالت دون إعادة إدماجهم، ودفعتهم إلى إحراق مراكبهم وتمزيق جوازات سفرهم والكفر بأوطانهم، فالمقاتلون العرب والأجانب أصبحوا اليوم رأس حربة تنظيم "الدولة الإسلامية"، وهم أشد بأسا وأكثر بطشا، ومع غياب الديمقراطية والإصلاح والحريات وشيوع الاستبداد والفساد والإصرار على المقاربات العسكرية والأمنية، فإن المنطقة توشك على الانفجار.