كتب خالد الدخيل: منذ إدارة الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون، بات هنري
كيسنجر يعتبر أحد أبرز السياسيين الأميركيين منذ سبعينات القرن الماضي وحتى الآن. بدأ مشواره السياسي كمستشار للأمن القومي، ثم وزيراً للخارجية للرئيسين نيكسون وجيرالد فورد. ترك بصماته في السياسة الخارجية الأميركية أولاً من خلال دوره في إنهاء حرب فيتنام، والانفتاح على الصين، ثم الصراع العربي - الإسرائيلي. في الأخير كان نجم ما كان يعرف حينها بـ"سياسة الخطوة خطوة"، ثم فك الارتباط بين القوات العربية والإسرائيلية على الجبهتين المصرية والسورية، وذلك بعد وقف إطلاق النار في حرب أكتوبر (رمضان) عام 1973. بعد ذلك لعب دوراً مهماً في تسهيل التحول الذي بدأه الرئيس المصري الراحل أنور السادات عندما قرر أن ينهي تحالف مصر مع الاتحاد السوفياتي آنذاك، وأن يستبدله بالتحالف مع الولايات المتحدة. إذا أخذنا هذا في الاعتبار، مضافاً إليه تاريخ كيسنجر مع المنطقة، وتاريخ حضور النفوذ الأميركي في هذه المنطقة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، يصبح من المهم التعرف إلى رأي من يمكن اعتباره عميد الديبلوماسية الأميركية.
مرت أكثر من أربعة عقود على تقاعد كيسنجر من العمل السياسي، وبالتالي تحرر من قيود المركز الرسمي. كيف ينظر في هذه المرحلة الحرجة إلى
السعودية كحليف للولايات المتحدة، وكعضو في ما يسميه النظام الدولي؟ هذا ما نجد إضاءات عنه في كتابه الأخير بعنوان "النظام العالمي World Order". في مقدمة الكتاب يقر كيسنجر بواقع أنه لم يكن هناك، ولا يوجد الآن نظام عالمي حقيقي. وأن هذا المصطلح الشائع الآن يستخدم لنظام بدأ في أوروبا الغربية قبل أكثر من 350 سنة في مؤتمر للسلام عقد في مقاطعة ويستفاليا Westphalia الألمانية عام 1648، وذلك بعد قرن من صراعات طائفية وعدم استقرار سياسي عصف بوسط أوروبا. آنذاك لم يشارك في ذلك المؤتمر، بل لم تعرف عنه أغلب القارات والحضارات خارج القارة الأوروبية. والنظام الذي انبثق من ذلك عرف لاحقاً بـ"النظام الويستفالي، أو Westphalian System"، وهو الذي يستند في أساسه إلى استقلال وسيادة الدولة الوطنية، وبالتالي حرمة الحدود الجغرافية لهذه الدولة، ثم مبدأ توازن القوة كآلية لحماية هذا الواقع السياسي الجديد. بعد ذلك أخذ هذا النظام بالتوسع تدريجياً، وأخذ ينتشر حتى قيام الأمم المتحدة كسلطة عليا لهذا النظام، ووصل إلى ما وصل إليه في وقتنا الحاضر. في هذا الإطار كيف تبدو السعودية كما ينظر إليها هذا السياسي الأميركي؟
يبدأ كيسنجر حديثه عن السعودية في الفصل الذي عنونه بـ"الإسلامية والشرق الأوسط... فوضى عالمية". وهنا ينطلق مما يعتبره نوعاً من المفارقة التاريخية، وهي أن السعودية هي من بين أحد أهم حلفاء الديموقرطيات الغربية خلال الاضطرابات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية. وتبدو المفارقة كما يراها في الاختلاف البيّن للواقع السياسي الداخلي للسعودية، عن واقع تلك الديموقراطيات. في هذا الإطار، ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، كانت السعودية، كما يقول، شريكة، أحياناً بصورة هادئة، لكن حاسمة خلف المشهد، في أغلب المشاريع الأمنية في المنطقة. وهو ما يعتبره تعاوناً يعكس السمة الخاصة للنظام الويستفالي الذي يسمح لمثل هذه المجتمعات المختلفة بأن تتعاون في سبيل أهداف مشتركة، من خلال آليات رسمية (قانونية وسياسية) تخدم مصالحها الكبيرة والمتبادلة.
بعد ذلك يعطي ملاحظة لافتة تعكس مسافة واضحة بين معرفة كيسنجر العميقة للإطار التحليلي الذي يتحرك في داخله، أو تاريخ وعمل النظام الدولي، من ناحية، ومحدودية معرفته بالسعودية وتاريخها، من ناحية أخرى. يقول إن "السعودية مملكة عربية إسلامية تقليدية". وهذا صحيح. ثم يقول إنها معاً "ملكية قبلية، وثيوقراطية إسلامية". وهذا لا يستقيم، لأن التاريخ الإسلامي عرف "القبلية" كمستند للحكم، لكنه لم يعرف "الثيوقراطية" بمعناها الحرفي كنظام للحكم. الأرجح أنه كانت هناك ثنائية، أو تحالف بين البعد القبلي للحكم، والدين كغطاء لشرعية الحكم. واتساقاً مع ذلك توجد هذه الثنائية في تاريخ الدولة السعودية: فهي ليست دولة قبلية من حيث أنها ليست دولة قبيلة بعينها. وليست أيضاً دولة دينية من حيث أن الملك ليس من طبقة الفقهاء، وأن الشريعة ليست المصدر الوحيد للتشريع. نعم تستفيد الدولة من القبيلة والتوازنات القبلية، وتستند إلى شرعية دينية، لكن الدين ليس المصدر الوحيد لهذه الشرعية.
بالنسبة إلى السياسة الخارجية السعودية، يلاحظ كيسنجر أنها تتميز بالحذر الذي جعل من عدم المباشرة (يقصد ربما عدم اتخاذ مواقف سياسية واضحة ومباشرة) آلية ديبلوماسية خاصة ومميزة.
ويوضح ذلك بأنه "لو اتبعت المملكة سياسة مباشرة، ووضعت نفسها في بؤرة كل الخلافات، فإنها ستعرض نفسها لخليط من الاستعطافات، والتهديدات والاتهامات من دول أكثر قوة، بما سيؤدي تأثير تراكمها مع الوقت إلى تهديد استقلال، أو تماسك الدولة". بدلاً من ذلك نجحت الدولة السعودية، كما يقول، في تحقيق الأمن وترسيخ السلطة بممارسة اللعبة السياسية (إقليمياً ودولياً) عن بعد، ومن دون أن تكون في بؤرة المشهد. ثم يذكر وزير الخارجية الأميركي السابق، وربما عن خبرة مباشرة، أنه حتى في خضم أزمات تعتمل يميل السعوديون غالباً إلى الانسحاب، وكأنه لا صلة لهم بالموضوع.
من هذه الزاوية، استطاعت المملكة أن تنأى بنفسها عن أن تكون في طليعة أو مقدمة المواجهة، حتى عندما تكون قدراتها ومصادرها تدعم وتسند ذلك. يذكر كيسنجر مثالاً على ذلك المقاطعة النفطية عام 1973، والجهاد الأفغاني، لكن من دون أن يفصل. أما المثال الثالث الذي فصل فيه إلى حد ما، فهو عملية السلام في الشرق الأوسط، إذ يشير إلى أن السعودية أسهمت في تسهيل هذه العملية، لكنها تركت موضوع المفاوضات فيها للآخرين. لماذا يبدو السلوك السياسي للسعودية على هذا النحو؟ يعيد كيسنجر ذلك إلى التقاء عوامل عدة تدرك السعودية أنه لا بد من أخذها في الاعتبار كلها مجتمعة: الصداقة مع الولايات المتحدة، والولاء العربي، والانتماء إلى تفسير تطهري للإسلام (الإشارة هنا إلى الوهابية)، والوعي بالمخاطر الداخلية والخارجية. في الآونة الأخيرة يبدو أن شيئاً تغير في هذه المعادلة.
ففي هذه الأيام، حيث عصر الجهاد (الإسلامي)، والاضطرابات الثورية، والانسحاب الأميركي من الإقليم، وضعت السعودية، كما يقول كيسنجر، بعضاً من مبدأ عدم المباشرة جانباً، جاعلة من عداوتها وخوفها من إيران الشيعية أمراً واضحاً ومباشراً. وعلى خلفية ذلك يؤكد كيسنجر أن السعودية هي أكثر دولة في الشرق الأوسط تعاني من جيشان المد الإسلامي، ومن إيران الثورية، وذلك لأن مصالحها واهتماماتها موزعة بين التزام رسمي بمفاهيم نظام دولي تستند إليه في أمنها والاعتراف الدولي بها كدولة شرعية، وتطهرية (وهابية) دينية تعتبر معلماً رئيساً لتاريخها، وجاذبية تطرف إسلامي يهدد تماسكها الداخلي.
هذا بعض، وليس كل ما قاله وزير الخارجية الأميركي الأسبق. والأرجح أن ما يقوله في هذا الكتاب لا يمثل رأيه هو وحسب، بل يمثل رأي قطاع واسع من الطبقة السياسية الأميركية. وبذلك فهو جدير بأن يطلع عليه السعوديون لمعرفة كيف يفكر أصدقاؤنا في واشنطن عنا تحديداً. سأكمل في الأسبوع المقبل بقية حديث كيسنجر، وتعليقي على ما قاله.
(الحياة)