يتلقى اللبنانيون رسائل تطمئنهم إلى أن «
داعش» (و «
النصرة») لن يخترق الحدود اللبنانية، وأن الملابسات في جرود بلدة عرسال وتعقيد قضية الجنود المخطوفين مجرد لعبة شد حبال، تجد ترجمتها في صراع القوى السياسية اللبنانية أكثر مما تشكّل تهديداً للكيان حدوداً ومجتمعاً.
ولا يحتاج الأردنيون إلى من يطمئنهم إلى سلامة وطنهم، الذي تضطلع حكوماته بأدوار معقّدة لكنها لا تقطع الاتصال أبداً بالقوى الدولية والإقليمية كلها، بما فيها النظام السوري أحياناً.
طمأنينة لبنان والأردن تعود إلى عوامل، من بينها التكوين الخاص للدولة الموثوق بها في الإقليم والعالم، وكونها متفاعلة وغير منقطعة عن شعبها. وفي هذه المرحلة تتعزز حاجة القوى السورية المتصارعة للمتنفّس اللبناني، كما حاجة مثيلاتها في
العراق للمتنفّس الأردني.
هذا الوضع تفتقده الدولتان السورية والعراقية، إذا صح إطلاق صفة الدولة على سلطتي البعث في دمشق وبغداد، المتناحرتين والقائمتين على ديكتاتورية ذات ذراع عسكرية، والبعيدتين من الشعب على رغم نطقهما باسمه في الأعياد الرسمية.
وإذا كان الإرهاب «الداعشي» غزا البلدين، فكأنما استُدعي ولم يكن مجرد غازٍ، ذلك أن تداعي الدولة العراقية بعد «جنون» صدام حسين في سنوات حكمه الأخيرة التي أعقبها الاحتلال الأميركي بسياساته الإلغائية، وتباعد المسافة بين النظام والشعب في سورية، الظاهر في توتر الحاكم ولجوئه إلى العنف الأعمى منذ التظاهرات السلمية الأولى. ذلك كله يعني أن الفراغ في العراق وسورية هو ما ملأه الإرهاب، ولن يستطيع أهل الحكم في بغداد ودمشق دحره، لأنهم لا يملكون سبيلاً إلى جذب مناطق اجتاحها «داعش»، على رغم استبداد التنظيم ضد من بقي من سكان أشبه بالعبيد. لا يملك حزب «الدعوة» العراقي ولا بشار الأسد جاذبية تستعيد وحدة الأرض والشعب وتقيم الدولة من جديد، فالفارق بينهما وبين «داعش» الذي يصب في مصلحتهما، هو فارق في الدرجة لا في النوع. وليس من أفق للمعارضة في البلدين أو لداعمي هذه المعارضة لتقديم نموذج حكم مدني ديموقراطي جاذب، حتى لو أقيم على أرض محدودة خارج سلطتي «داعش» والنظام.
إنها مأساة الشعبين السوري والعراقي وسنواتهما الضائعة، ولن تنتهي إلا بأيدي قوى إقليمية ودولية كبرى تتفق، إذا أرادت، على خريطة سلام في البلدين، تتضمن على الأرجح إعادات نظر في الحدود والتكوينات السياسية والاجتماعية والدولتية. ثمة احتمال حقيقي لسايكس بيكو جديد بتوقيعات متعددة، فالوضع في المشرق العربي هذه الأيام أكثر سوءاً وتعقيداً مما كان عليه عند انهيار السلطنة العثمانية.
سنوات أضاعها العراقيون والسوريون، وقد أدركوا ذلك بعد فوات الأوان، ولن يستعيدوا ما فقدوا على رغم زيارات حيدر العبادي الودية إلى الدول المجاورة وانتهاجه سياسة مضادة لسياسة سلفه نوري المالكي المتعصبة والقصيرة النظر، وعلى رغم تسريبات المعارضة السورية ورقة مشتركة بين «هيئة التنسيق» و «الائتلاف» تمهد لحوار مع النظام ينقذ سورية على قاعدة دولة مدنية ديموقراطية.
الأقاليم العراقية الثلاثة أصبحت أمراً واقعاً، و «داعش» صار واقعاً سورياً سيندرج في مسار عرفته منظمات قامت على العنف الصافي ثم تخلت عنه تدريجاً، بفعل تكوين الدولة والمصالح، لتصافح الأيدي الممدودة إليها من الداخل والإقليم والعالم، حين تتقدم هذه للمصافحة.
(نقلا عن صحيفة الحياة اللندنية)