عياش حيٌ لا تقل عياش مات ** أو هل يجف النيل أو نهر الفرات
كان هذا مطلع قصيدة الشهيد الدكتور عبد
الرنتيسي في رثاء الشهيد المهندس
يحيى عياش، يقرر فيه أن عياش، إذا كان الله تعالى قد تقبله في الشهداء، لم يمت، وأنه للوجود الإنساني من حيث هو شهيد ضرورة كما هي ضرورة الماء لهذا الوجود.
بيد أن هذا التلازم بين يحيى عياش والنيل والفرات تلازم أبدي يتجاوز هذا الوجود المحسوس إلى ما وراءه، فروح يحيى عياش، إذا كان الله تعالى قد تقبله في الشهداء، في جوف طير أخضر يرد أنهار الجنة ويأكل من ثمارها، والنيل والفرات من أنهار الجنة.
لم يلبث الرنتيسي أن لحق بعياش بعد ثماني سنوات تقريبًا من نظمه هذه القصيدة، وصعد على نحو يشبه صعود عياش، وكأنه وجد هذه السنوات الثماني حياة طويلة، كما وجد عياش أعوامه التي لم تبلغ الثلاثين حياة طويلة، في امتداد يتصل بعمير بن الحمام الذي وجد أن الفترة التي تفصله ما بين أكل التمرات والجنة التي عرضها السماوات والأرض حياة طويلة، فرمى ما كان معه من التمر ثم قاتل حتى قتل، كما أن الفترة التي فصلت بين بدر وأحد كانت حياة طويلة بالنسبة لأنس بن النضر الذي صدق ما عاهد الله عليه وقتل في أحد.
ما الذي فعله محمد، صلى الله عليه وسلم، بعمير بن الحمام وأنس بن النضر ويحيى عياش وعبد العزيز الرنتيسي؟! أو ماذا يعني هؤلاء بالنسبة لما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم؟!
باختصار؛ لقد تحقق هؤلاء على مراد الوحي من حيث أنه نزل لتحقيق الكرامة الآدمية، بتحرير الإنسان من الطاغوت المتمثل كثرة في كل أشكال الرغبات والرهبات، فردَّ الوحيُ الأمرَ كله إلى شيء واحد، هو الله تعالى، ثم كان الإسلام الثورة الواقعية الصادرة عن هذا الوحي في مجال تحرير الإنسان من كل الطواغيت التي ينزع إلى الخضوع إليها بما ينتقص من كرامته الآدمية.
فعملت هذه الثورة، صدورًا عن الوحي، في مستويين اثنين: الداخلي لكل فرد بتحقيق التقوى فيه والتي كلما ازدادت تحققًا كلما اقتربت الكرامة من الكمال، واقتربت عودة الإنسان إلى أصله الذي خلق عليه "ولقد كرمنا بني آدم"، "إن أكرمكم عند الله أتقاكم"، وهذه التقوى تتحقق بالقدر الذي يتحرر فيه الإنسان من أصنامه الثاوية في داخله، أي بالقدر الذي يتحرر فيه من استبداد شهواته ومخاوفه به، ولأن هذه المعركة ملازمة للإنسان الذي تتقاسمه كل من المادة والروح، ولأنها أساسية بالنسبة للمستوى الثاني الخارجي، كانت العبادات وسيلة ضرورية لتركيز اتصال الإنسان بالله الواحد من أجل نفي الطواغيت كلها التي تستبد بالإنسان وأخطرها طاغوت الهوى، "يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون".
أما المستوى الثاني: فهو مكابدة الحياة في مواجهة الطواغيت المتجسدة عيانًا في صورة بشر، وبكلمة أخرى: في تحرير المجال الإنساني كله من استعباد بعض البشر لبعض، وبكلمة ثالثة: في تحقيق العدل والكرامة الآدمية على مستوى الاجتماع الإنساني، بيد أن هذه المهمة في المستوى الثاني الخارجي، لا يمكن القيام بها دون الانتباه الدائم إلى المعركة المستمرة داخل النفس مع طواغيتها الخاصة، وبالذات الخوف على الحياة، والخوف على الرزق.
استخدم الطواغيت ومنذ البداية خوف الإنسان على حياته، وخوفه على رزقه، لاستعباد الإنسان، فادعى الطاغوت أنه يحيي ويميت، إن بالقتل أو بالسجن، وادعى أيضًا أن له ملك البلاد وأن الأنهار تجري من تحته، فكان الوحي دائمًا يقرر لهذا الإنسان بأن الله وحده الذي يحيي ويميت، وأنه وحده الذي "يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له"، بيد أن هذه الحقائق بعض من القضية الكلية التي لا تكتمل إلا بحقيقة اليوم الآخر، التي تمنح هذه المعركة المعنى، وبهذا تتصل مكابدة الإنسان في الدنيا بجزائه المقيم في الحياة الآخرة.
وبهذا صار للموت معنى آخر بالنسبة للمؤمن، تبدو فيه هذه الحياة الدنيا طويلة بالقدر الذي تفصل فيه هذا الإنسان المؤمن عن موته، فعمومًا لم تعد هذه الحياة الدنيا كل شيء، إلا أن ثمة إضافة أخرى بالنسبة للإنسان المؤمن الذي يقتل في مواجهة الطاغوت، إذ أن موته مجرد انتقال سريع لحياة أبدية خالدة، فموته هو فقط اللحظات الفاصلة ما بين خروج نفسه من جسده واستقرار روحه في أجواف طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت، ترد أنهارها وتعلق من ثمارها وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش، تفرح بما آتاها الله من فضله، وتستبشر بالذين لم يلحقوا بها من خلفها، وبهذا فإن الإيمان ينتقل بالإنسان من ردّ الموت والرزق إلى الله وحده، إلى اعتبار القتل في سبيل الله أمرًا مرغوبًا، إلى الدرجة التي يصير فيها أكل بضع تمرات في المعركة حياة طويلة، وتصير فيها تسعة وعشرون عامًا عاشها عياش حياة طويلة.
ثمة معنى آخر للشهادة، يجعل من الشهداء ضرورة للمكابدين من خلفهم في هذه الحياة الدنيا، إلى الدرجة التي يتخذ فيها الله الشهداء، كما أنه يصطفي الأنبياء، إذ تبدو الشهادة في هذه الحالة ذروة التحرر القصوى التي يصلها الإنسان من كل الطواغيت ومن كل أهوائه وشهواته، وهو بهذا لا يؤدي دوره كنموذج ملهم فقط، بل إنه ضرورة للتوازن الإنساني حينما تستبد به المادة: النصر الذي تأخر، أو مكاسب النصر الذي تحقق، أو المغانم على قارعة المعركة المفتوحة، فهذا الشهيد يثبت أن الإنسان قادر على تحقيق الكرامة الآدمية والتخلص من سطوة المادة، فهو يصعد دون أن ينتظر شيئًا من هذه الحياة الدنيا، وكأن الشهيد في هذه الحالة موعظة مفتوحة تعزز من استجابة الإنسان لموعظة الوحي.
ربما علينا أن نبحث عن أشياء أخرى تجعل من حياة عياش بعد مقتله بمثل هذه الحرارة بيينا حتى اللحظة، عن ذلك السر في تلك السنوات التي لم تبلغ الثلاثين، فأي شيء كان يُظهر لنا، وبقي يوحي إلينا، بأن عياش عاش حياة طويلة مديدة ملأته حكمة وصهرته تجربة، ولماذا تبدو تلك السنوات الثلاث التي قضاها عياش مطاردًا وكأنها حياة جهادية مفتوحة إلى يومنا هذا؟! لماذا يبدو لنا أن يحيى عياش لم يكن نموذجًا ملهمًا وحسب، بل مجاهدًا بقي يقاتل حتى بعد ارتقائه إلى ساعتنا هذه؟! إنه اتخاذ فوق اتخاذ، فموعظة الشهداء كتاب مفتوح لا ينغلق، وموعظة بعضهم أكثر اتساعًا وثراء وإدهاشًا من غيرهم، و"ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم".
فلسطين أيضًا، وفيما تعلق بهذه الحياة الدنيا تقع في القلب ما بين النيل والفرات، وعلى هذه الأرض استشهد يحيى عياش وعبد العزيز الرنتيسي وآلاف الشهداء الآخرين، وهذه الأرض بشهدائها ستبقى تفعل فعلها في هذه الأمة إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولاً.