لم تعد ارقام معظم
الموتى واعدادهم مهمة، لاننا في بلاد عاجزة عن الاهتمام حتى بمعظم الاحياء. لكننا نحن الذين نمارس الحياة بأشد الطرق غرابة في هذه البلاد، نحتاج ان نحاور الموتى لنفهم انفسنا احيانا. هكذا يفعل الكثير من النساء والرجال، مرة لمواساة انفسهم، واخرى لتفريغ شحنة التعجب والذهول من كل ما يجري. التعجب من وقوعنا في فخ الحماقة مليون مرة، والتعجب من رهاننا على ان الحل يتحقق بمزيد من الدم.
لقد استراح الموتى دونما شك. وعلى اي حال لا احسب ان بهم رغبة لفهم ما جرى، فكل سين وصاد هي سواء في عالم الفناء. لكن هذا لا يرفع عن كاهلنا مسؤولية التفكير بمعنى فنائهم لانه مثل معنى حياتنا، سواء تحدثنا عن اطفال تجمدوا وماتوا في مخيمات عراقية وسورية، اثر جليد التاريخ الذي جمد كل شيء حولنا، او شباب يفتكون ببعضهم على كل خطوط التماس.
اخطر الاعترافات التي يدلي بها الاحياء للفانين، هو ان "القضية" التي سال بسببها الدم، او انجمد في العروق والقلوب، هي قضية برسم البيع على طاولة معظم الساسة. كل الصراخ الذي نسمع، وكل العناد الذي نرى، وكل الامتناع عن الحوار والتسوية، هو امر متغير، وموقف متزعزع، لا في حروبنا المخزية هذه وحسب، بل هكذا يشتغل الزيف والكذب على طول الخط.
اكثر ما يؤلم امثالي من الاحياء وهم يفكرون بالموتى، ان المواقف التي بدت مقدسة، ستتغير عاجلا ام اجلا. وان طوابير الضحايا كانوا مجرد عدد فائض تخلصت منه الطائفة او الحزب، في محاولاتها العادية لخوض اللعبة الحمقاء.
ان الحماقة موجودة لدى كل الامم، لكن ما يؤلم هو ان امتنا تعيش "فوضى حماقة" ذات ضرر فادح. ان الامم المحظوظة تكون قادرة على "تنظيم حماقتها"، بالضبط كما تنظم حركة مرورها وتضبط رائحة دورات مياهها. اما الامم التي تنتج موتا اكثر، فهي التي تفقد السيطرة على كل شيء.
وليس الامر مستدعياً للعجب، اذ ان انفلات الفوضى سببه كثرة العطالة وانعدام موهبة الابتكار، التي تجعل الزعماء يشعرون بالفراغ، ولا يحسنون ملأه بصناعة مفيدة او تجارة مجزية او تقدم حسي وروحي، او استمتاع ببعض العدالة، انهم لا يجدون ما يفعلون سوى تكرار ما حصل من عناد ينتهي بالهزيمة، وهو امر تكرر وتكرر في اخر عشرين قرناً.
لم نستطع تطوير معنى البطولة، ولا معنى السياسة، ولا حتى نمط التعذيب وشكل القتل. لم نجد اشياء اكثر اهمية ننشغل بها سوى لعن بعضنا المؤدي الى قتل بعضنا. توقفنا عن الاكتشاف والاختراع وتدوين الحكمة وحتى تسجيل التواريخ، فضقنا ذرعا وسئمنا الايام المتشابهة، لذلك انشغلنا بالحرب، واستسهلناها. لم نبتكر صيغة ممكنة للحياة فكان الاسهل هو التوغل في عوالم الموت المؤلم.
لقد تفشى التحريم والمنع وقام بتطويق كل فرص الابتكار، ولا احد يعترف في الوقت المناسب، باننا لم نترك لشبابنا سوى التفنن بأسلوب الهلاك وابتكار طرق موجعة للنهاية.
ولاننا ندور في تفاصيل صراع مزيف وغير منطقي، صراع بدائي وغريزي جدا، مستند لانفعال بدائي مضحك، فاننا في لحظة الانهاك وتضخم الهزيمة وهلاك خلق كثير كثير، سنعترف اخيراً بان التنازل "صار ضروريا لمستقبل الشعب"، وان المرونة "باتت مهمة لتحقيق مصالح الامة". وسنتعامى عن حقيقة ان معظم الشعب ميت او فاشل، وان الامة لم تعد تستحق وصف الامة.
وسيصدر قرار الصلح، وحينها سيصفق الاحياء، ولكن لن تكون فرصة لدى الموتى كي يطرحوا اسئلتهم الاخيرة، على ركام الخداع والتضليل الذي ننحدر في حضيضه، وندفع ضرائبه، وننشغل بمعاركه الزائفة، التي هدفها الوحيد اجبارنا على نسيان معارك حقيقية اخرجتنا من سباق الحياة.
(نقلا عن صحيفة المدى العراقية)