إن المتابع لسياسة الولايات المتحدة الأمريكية خلال سبعين عاما الماضية، يجدها لا تحيد مطلقا عن ثلاثة أسس ألا وهي:-
- حماية مصادر
النفط
- حماية إسرائيل
- تكريس الهيمنة الأمريكية
وخاضت الولايات المتحدة عشرات الحروب من أجل الحفاظ على تللك الأسس، ومات مئات الآلاف من أجل ذلك، وتحملت
الخزانة الأمريكية مئات المليارات من الدولارات للحفاظ على تلك الأسس التي كانت محور الانتخابات الأمريكية، فالنشاط الانتخابي الخارجي للسياسة الأمريكية يتركز حول تلك الأسس الثلاثة، ولسنا بحاجة للقول إن كلا من الحزبين الرئيسين الحزب الديموقراطي والحزب الجمهوري يتبنيان محاور السياسة الخارجية ذاتها، وإنما الخلاف فقط في السياسة الداخلية لكل حزب.
ولهذا فإن كلا من الحزبين سار على ذات نهج الحزب الآخر، وهكذا ظلّت سياسة الولايات المتحدة الأمريكية الخارجية ثابتة لا تتغير إلا بالقدر الذى يسمح بالمناورة، للحفاظ على ثبات الأسس الثلاثة الرئيسية.
ولكن العالم تغير الآن وللأبد، فمنذ صدمة أيلول/ سبتمبر 2001 وإحساس الولايات المتحدة بعدم الأمان الجغرافي تقرر إحياء مشروع تطوير بحوث النفط الصخري التي كانت بدايتها على يد الرئيس الأمريكي جيمي كارتر بعد أزمة النفط التي كانت نتيجة حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973، وخوفا من تكرار التجربة مرة أخرى أو الأخطار الخارجية التي تهدد الإمداد اليومي للنفط.
فالولايات المتحدة الأمريكية تبحث منذ أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر عن الأمان بكل أنواعه.
والأمان يعتمد على الاستقلالية التامة، وعلى الاعتماد الذاتي فيما يخص مقومات الاقتصاد الأساسية وهي مصادر الطاقة، وأهم تلك المقومات النفط، ولذلك كان النفط الصخري هو هدف استراتيجي بالنسبة للمشروع الاقتصادي الأمريكي الجديد.
لقد انخفضت أسعار النفط، ولن تعود لسابق عهدها حتى يلج الجمل في سم الخياط، فمهما حاولت دول "الأوبك" التحكم في سعر النفط بالزيادة أو النقصان، فإن تكلفة النفط الصخري هي من سيقرر سعر برميل "الأوبك"، وكلما انخفضت تكلفة برميل النفط الصخري زاد التحكم في قيمة برميل بترول الأوبك، فالحقيقة التي يجب ألا ننكرها هي أن إمبراطورية الأوبك انتهت إلى الأبد، وسينتهى عاجلا أو آجلا النشاط الاقتصادي والعسكري للعديد من الدول.
وهنا تكمن بداية المفاجأة الأمريكية الكبرى، وهي ضربات اقتصادية مباشرة موجعة لأعداء أمريكا التقليديين
روسيا وإيران، وضربات غير مباشرة لأصدقاء تقليديين قد يمثلون أعداء المستقبل، مثل دول
الخليج أو دول الأوبك، فالمصلحة هي معيار السياسة الخارجية.
فنحن نعلم جيدا أن الولايات المتحدة الأمريكية لا ينقصها شيء للحفاظ على استمرار تفوقها الاقتصادي، سوى النفط والسوق الخارجية، فهي تملك التفوق الحضاري التكنولوجي والعلمي والعسكري والاجتماعي والفكري، ولذلك فهي تستطيع الاستغناء عن أربعمئة مليون عربي لو أرادت ذلك، مع كل التأكيد أن الأربعمئة مليون لن يستغنوا عنها.
وأما فيما يخص أمن إسرائيل، فقد تكفلت الولايات المتحدة الأمريكية بتقديم السلاح والغطاء النووي الذي يحمي إسرائيل ضد كل العرب والمسلمين، بالإضافة إلى الأسلحة التقليدية، وبما يضمن تفوقها لعشرات السنين.
وأثبتت ثورات الربيع العربي أن من يحمي إسرائيل في حقيقة الأمر هي جامعة الدول العربية، بما فيها جميع الدول العربية، وأن القضية الفلسطينية هي موضوع هام جدا لاستمرار النظم العربية الحاكمة ومحاولة إيجاد حل نهائي لتلك القضية هي بمثابة حكم بالقضاء على معظم النظم العربية.
فدولة إسرائيل آمنة مطمئنة من ناحية النظم والجيوش العربية، فليس على الولايات المتحدة القلق مطلقا على أمن إسرائيل، وهي تعلم ذلك جيدا، فهناك بضع وعشرون دولة عربية تحمي إسرائيل، وفي مقدمتها مصر، أقوى دولة عربية، بل إن إسرائيل تحمي جميع نظم تلك الدول، وتقوم بعمل الانقلابات العسكرية إن لزم الأمر.
ولا ينقص إسرائيل إلا الانضمام رسميا لجامعة الدول العربية، ومنظمة المؤتمر الإسلامي!
وأما فيما يخص الهيمنة الأمريكية، فلن تضعف تلك الهيمنة على الأقل لمدة عشرين عاما القادمة، فلم يعد هناك من يستطيع المنافسة، حتى لو كان يملك السلاح فتكلفة حرب بسيطة لمدة شهر لدولة كبرى خارج أرضها سوف تكلف تلك الدولة عجزا في ميزانيتها لمدة عشرة أعوام على أقل تقدير، فروسيا لن تتدخل فى الشرق الأوسط، وأوروبا كذلك.
انتهى عصر حروب الدول الكبرى، وتم ترك المهمة لجيوش تلك الدول، لتقوم بما كانت تقوم به الدول الكبرى من الحفاظ على الهيمنة المطلوبة، ففي سوريا تم الحفاظ على الهيمنة الروسية على حساب وحدة الوطن ومئات الآلاف من الأرواح، وكذلك تم الحفاظ على الهيمنة الأمريكية في مصر على حساب مئات الأرواح وآلاف المعتقلين، وعلى حساب القيم الديمقراطية.
وهكذا اليمن والبحرين والعراق والجزائر وليبيا والصومال، فلم يعد هناك حاجة للتدخل المباشر إلا بالدعم اللوجستي الضروري.
إذا ما هي المفاجأة الأمريكية الكبرى؟
إن المفاجأة الكبرى هي انسحاب تدريجي نشط من منطقة الشرق الأوسط، وعدم العودة إلا في حالة عجز المندوب عن القيام بمهامه على الوجه المطلوب والمندوب.
حروب المنطقة العربية ستتحول إلى حروب عصابات، فالدول العربية مقبلة على حروب أهلية لا محالة، وهناك أكثر من ستة دول تدخل في هذا الإطار، وستتكفل إسرائيل بهذا الملف ضمنيا، وهذه الحروب هي حروب خاسرة منذ البداية لكلا الطرفين، ولكن لابد من خوضها؛ لأنها مصيرية لكلا المتحاربين. والحالة الوحيدة لعودة الولايات المتحدة بجيوشها هي انتصار التيار الإسلامي المناهض، الذي تخافه، ويشاركها الخوف أوروبا وكندا وأستراليا.
الولايات المتحدة سوف تترك دول الخليج لمصيرها أمام شعوبها، فهي لم تعد بحاجة للنفط العربي، وليست بحاجة إلى تلك النظم التي أصبحت عبئا عليها، بل ستحاول التخلص منها وإدخالها في (ربيع خليجي) يجعلها تخسر كل ما جمعت من أرصدة مالية من النفط، فقد أثبتت تجارب الربيع العربي أن النخب الفاسدة، وفي مقدمتها المؤسسات العسكرية والأمنية، سوف تقوم بتوجيه أي ثورة شعبية لصالح الطبقة الفاسدة، التي تجيد التعامل مع الولايات المتحدة، التي تفضل تلك الطبقة، وتضحي بمبادئ الديموقراطية في سبيل ذلك.
وسوف تقوم فور تبدل تلك النظم بالاستيلاء على مدخراتهم المالية لديها.
لم تعد الحاجة ماسة لقناة السويس بعد الاستغناء عن النفط التقليدي، فطريق المحيط الأطلنطي سيكون هو الأكثر استخداما لتصدير النفط الصخري إلى أوروبا من كندا والبرازيل والولايات المتحدة والصين وروسيا، وكذلك إيطاليا.
فبعد انخفاض أسعار النفط، فإن أمام
إيران عاما واحدا أو أكثر قليلا، وستحدث الثورة أو الانقلاب، وستدخل روسيا في النفق المظلم، رضيت أم أبت، وسوف تنتظر الولايات المتحدة مصرع تلك النظم والدول بسعادة، وبدون تأثير يذكر عليها، فمدخراتها من خفض أسعار النفط ستعوض أي خسائر تتعرض لها في جوانب أخرى.
فهي دولة مستوردة للنفط على مدار سبعين عاما، وستصبح دولة مصدرة من الآن وصاعدا، ومكتفية ذاتيا، فهي لم تعتمد على مداخيل النفط مثل إيران وروسيا ودول الخليج، وكذلك أوروبا. سوف تزدهر بفضل انخفاض أسعار النفط.
إن الخطر القادم للولايات المتحدة هو خطر آسيوي يتمثل في الصين والهند، وآن الأوان لمواجهة هذا الخطر اقتصاديا وتكنولوجيا، فقد أيقنت الولايات المتحدة أن عصر الحروب العنيفة انتهى بعد حربين أوشكت فيها الخزانة الأمريكية على الإفلاس، ولم يتحقق أي نصر فعلي بعد تلك الحروب.
فليس أمام الولايات المتحدة الأمريكية إلا حرب تكنولوجية لعودة هيمنتها، دون السلاح الذي أصبح متوفرا لدى الجميع، فتغيير الأسس التكنولوجية العالمية هو من يضمن التفوق والهيمنة الأمريكية.
والخلاصة أن مفاجأة الأمريكان الكبرى غير السارة للكثيرين، هو ترك الشرق الأوسط على المدى القريب للفوضى الخلاقة، لأنه أصبح غير مهمّا للمستقبل الأمريكي.