صور الغضب بالشارع
المصري لا تكاد تتناهى، إلا أن أقساها أحداث الضجيج الصامت، وهم هؤلاء الذين قسى قلب النظام نحوهم فبعثوا إلينا برسائل صامتة، ولكنها كانت أشد صخبا من التظاهرات التي خرجت -ولاتزال- لتحسين الأحوال.
فقد أصبحت أخبار محدودي الدخل ومعدوميه تتصدر الصفحات بشكل شبه يومي، ولكل حادثة منهم فاجعة تودي بالحياة السياسية لأي نظام، إن لم تودِ بحياة أفراده لقسوتها، لكن الوضع في مِصرنا مختلف، فالحوادث السابقة كقطار الصعيد والعبارة المنكوبة، لم تُنه حياة أحد من المسؤولين السياسيين، ولكنها كانت كفيلة بالقضاء على الحياة الوظيفية لبعض محدودي الدخل أيضا، فكانوا هم كبش الفداء فلم يكتف النظام بمن قُتل بل أضاف جثثا أخرى.
الحالة الاقتصادية للمجتمع في أسوأ أوضاعها وكذلك الحريات، وكثير من المجتمعات المستبدة تحاول الإبقاء على أحد الجانبين، أما ههنا فقد اجتمع الفقر مع الكبت والذل، وظهرت حوادث أكثر بشاعة، فلا يَخْل يوم تقريبا من حادثة انتحار أو محاولة انتحار، ويترك الراحل في صمت رسالة تهز المجتمع ولا تهتز شعرة للنظام، مستغفرا فيها ويدعو الناس أن يستغفروا له، وهناك من يتنصل من واجباته الاجتماعية بعرض أبنائهم للبيع، أو إلقائهم أمام المساجد. هؤلاء الذين ضحوا بأجمل لحظات حياتهم من أجل أن يُربى أبناؤهم في بيئة أفضل مما كانوا عليها، فأي نظام قسى على محكوميه ليوصلهم إلى هذه الدرجة؟
الحكومة التي ترى أن أحدا لا يستطيع أن يلوي ذراعها، تحاول إثبات هذا بعنادها الشديد، بزيادة في الأسعار، حتى في السلع الأساسية ويأتي وزير الجباية ليفرض ضرائب أخرى لتحسين الوضع الاقتصادي على حسب زعمه، الأمر الذي دفع -من قبل- أحد المصريين المقيمين بالكيان المغتصب، ليجهر بالشكر على النعمة التي أصبح فيها، إذ لا كفيل ليستعبده ولا مركب ليُغرقه.
في عام 1910 كانت أولى حوادث الانتحار بسبب الظروف السيئة بالمجتمع، فألف أحد الكُتَّاب الإنجليز كتابا أسماه "وقائع انتحار موظف عمومي". ويوضح الكاتب (مايكل بيرس) أن سبب إقدام الموظف على هذا هو تغلغل الفساد في المجتمع رأسيا وأفقيا سواء بالاستيلاء على الأوقاف من أصحابها وتحويلها إلى منافع خاصة بطرق ملتوية وغير قانونية أو شرعية، وحتى إقامة المشروعات العامة التي قد تجني الخراب على البلاد والمجتمع في الوقت الذي تحقق فيه مصالح خاصة لأشخاص بأعينهم. وتقريبا الوضع لم يختلف بل زادت مظاهر الفساد كثيرا عما مضى، ولكن المثير هو مدى تأثير هذه الحالة على المجتمع، فتوقف استشراء الفساد مجتمعيا إلى حد كبير، لكن هذه الوقائع هنا لم تحرك ساكنا لدى من بيدهم مقاليد الأمور، واعتبروا أن المجتمع تخفف من بعض "كفّاره".
الفارق الأبرز أن حادثة واحدة كان لها مثل هذا الصدى، أما في زماننا فأكثر من 2700 حالة في 2007 فقط وأكثر من 2355 في 2006 فقط، ولاحظ الزيادة في الأعداد. فوفقا لهذه الإحصائية -القديمة- هناك أكثر من سبعة أشخاص ينتحرون أو يحاولون الانتحار يوميا، مع مراعاة أن البعض يرفض الإفصاح عن حوادث الانتحار، خوفا من وجهة النظر السائدة عن المنتحر.
قديما ألف ابن خلدون في مقدمته بابًا عنونه بأن "الظلم يُؤْذن بفساد العمران"، وهذا الأمر هو ما يصم النظام أذنه عنه ويتعامى عنه أيضا، ولم يتعظ من سير التاريخ، فيأبى إلا أن يكون هو في يوم ما درسا للتاريخ.