سجْن المدون والناشط السياسي التونسي "ياسين العياري" ابن أول شهداء المؤسسة العسكرية التونسية بعد الثورة المرحوم العقيد "الطاهر العياري" هو أخطر المؤشرات على عودة دولة الاستبداد إلى تونس من جديد. الدولة الأمنية والدولة العسكرية بمفهومها القمعي والقسري في آن واحد هي التي تحاكِم اليوم أبناء الشهداء ممن يفضحون يوميا طرُق تسرُّب الورم السرطاني إلى جسد مؤسسات الدولة. قلنا دائما إن الدولة العميقة قد انتصرت في تونس وإن الثورة المضادة قد استعادت زمام المبادرة أمام القوى الثورية التي مكّنت بفضل تفكك صفوفها وأنانية قياداتها وغبائها من إنجاح الانقلاب على الثورة التونسية الخالدة. الانقلاب يتجلى في أوضح صوره عندما يطلُّ على الناس من شاشات التلفاز جلاد سابق ومجرم من مجرمي نظام بن علي الدموي ليقول للناس: لقد عذّبت علّقت وسحلت واغتصبت وقتلت منكم الكثير. فما أنتم فاعلون؟
العملية الإعلامية مثلُها مثل محاكمة ابن الشهيد في ثكنة عسكرية لا في محكمة هي في الحقيقة بالون اختبار للنَّفس الثوري في تونس حتى يطمئن الجماعة إلى أن الشعب هناك قد عاد للنوم من جديد وأنهم لا يخشون شيئا بعد أن طُويت أغلب الملفات. الدولة العميقة بصدد تعويد المواطن على نماذج وصور استبدادية جديدة وهو ما يحقق هدفين. الأول هو تحريك الجماعات المتشددة وإثارتها من خلال استفزازها مما يسمح بمواصلة العزف على نغم الإرهاب مثلما كان الأمر أيام الثورة وعرض فلم "بلاد فارس" أو "بارسيبوليس" السيئ الذكر على إحدى "قنوات العار" من أجل تأجيج الاحتقان الاجتماعي وعرض فلم "لا ربي لا سيدي" في نفس الفترة ولنفس الغرض أيضا. الهدف الثاني هو اختبار ردة فعل الجماهير العريضة وردة الفعل الجماعية على الحدث من أجل تعديل الجرعة القمعية في المناسبات القادمة ومعرفة السقف الذي يمكن أن تبلغ معه الإجراءات المتخذة مرحلة اللاعودة من أجل تفاديه حتى لا يحدِث انفجارا شبيها بإنفجار 17 ديسمبر.
الكارثة ليست في وقاحة المجرم إذن بل الكارثة الحقيقية تكمن في الصمت المطبق لنخب العار المحلية التي أصمت آذاننا خلال أربع سنوات قبل نجاح الانقلاب الانتخابي برواياتها عن عجز الطبقة الحاكمة وافتعلت كل الحرائق الاجتماعية الممكنة لمجرد حادثة بسيطة. اليوم تصمت كل منابر إعلام العار عندما بدأت الدولة العميقة في تصفية حساباتها مع الثورة والثوار وخاصة مع الشهداء وأبناء الشهداء. أ لم يُهِن العجوز التسعيني أهالي الشهداء مؤخرا في قصر قرطاج بمناسبة الاحتفال بهروب زعيم الدولة العميقة إلى السعودية؟ ألم يرفض الاستماع إلى معاناتهم ومطالبهم بالقصاص ممن قتل أبناءهم وقنص خيرة شباب تونس؟ الأكيد أن ملف شهداء الثورة قد أغلق أو هو بصدد الإغلاق لما يسببه من حرج للدولة العميقة ولم يبق من بارقة أمل غير لجنة الحقيقة والكرامة التي تعاني اليوم من التضييق و الترهيب.
الثورة التونسية تأخذ منعرجا خطيرا نحو عودة الاستبداد ودولة البوليس بسبب عودة المحاكم العسكرية التي تؤكد كل الأعراف والقوانين الدولية أنها لا تنظر في قضايا المدنيين فهذا ليس من اختصاصها إلا في حالتي الاحتلال أو الانقلاب العسكري. نموذج المحاكم الاستثنائية ليس جديدا في تونس فقد أقامه بورقيبة ومن بعده بن علي كالمحاكم العسكرية ومحاكم أمن الدولة لتصفية خصومه المعارضين من التيار المحافظ خاصة وكذلك من اليساريين. دليل آخر قاتل على عودة دولة البوليس أو بعبارة أدق دليل على أن دولة البوليس لم تخرج يوما لتعود وإنما طأطأت رأسها حتى تمر العاصفة. فبقطع النظر عن عودة التعذيب في مراكز الإيقاف بشهادة السلطات الأمنية نفسها وتغوّل النقابات الأمنية داخل الدولة وقعت بالأمس حادثة معبرة في مدينة سوسة الساحلية حيث أقدم عون أمن (بوليس) على صفع محام أمام المحكمة وعندما غضب المحامي أجاب عون البوليس : " عفوا كنت أظنك مواطنا ". جواب عون الأمن ليس مفاجئا ولا سرياليا بل هو عين الحقيقة ومرآة صادقة للعقيدة الأمنية التي تربى عليها جيل بن علي والتي ترى في المواطن عبدا يصفع متى شاء الشرطي ذلك لأن الواقعة لو حدثت في بلد أوروبي لفُصل عون الأمن ولطار وزير الداخلية نفسه من منصبه.
إن مجموع الأحداث الأخيرة التي عرفتها المرحلة الانتقالية والتي توجت بانقلاب الصناديق تؤكد أن الاتجاه العام للثورة التونسية وللربيع العربي بشكل عام هو مسار انقلابي بامتياز. فأغلب الثورات قد أُجهضت سواء كان ذلك بانقلاب عسكري مثلما هو الحال في مصر أو بتأجيج الحرب الأهلية كما يحدث في ليبيا أو بالتدخل الخارجي كما هو الأمر في اليمن التي تسلمتها إيران أو في أسوء الاحتمالات بتدمير البلد تدميرا على رؤوس سكانه مثلما يفعل سيد المقاومة ونظام الممانعة في سوريا.
الثابت الأكيد أن خللا كبيرا في التغيرات الأخيرة وخاصة في اللحظات التي تلت سقوط النظام قد وقع وقد مكن للدولة العميقة من العودة وهو خلل عضوي يشمل كل الدول العربية التي عرفت ثورات الربيع. فالنخب العربية التي فاجأها هذا الربيع مثلما فاجأ أغلب الأنظمة العربية لم تكن مستعدة للتغيير بل جاهرته العداء وساهمت بشكل أو بآخر في انتصار الثورة المضادة.
انتصار الثورة المضادة ليس نهاية المسار فالانتكاسات الثورية متواترة في تاريخ التغيرات الاجتماعية عبر القرون لكنه يمثل دائما نقطة انطلاق الحركة الثورية الجديدة التي تتأسس دائما على أخطاء الثورة المضادة وهي تعيد أخطاء الاستبداد القديمة التي أودت به. فليس سجن ابن شهيد المؤسسة العسكرية والإمعان في قمع الحريات إلا ذرّات صغيرة في بداية العد التنازلي للحركة القادمة التي ستؤسس أم المعارك وهي معركة جوهرها الحرية أولا والحرية أخيرا.