بات قطاع
غزة، وتحديدًا من بعد استكمال العدو انسحابه من القطاع في العام 2005؛ يشكل مركز الثقل الأساسي لحركة
حماس، وهو الأمر الذي تعزز من بعد تشكيل الحكومة المؤسسة على انتخابات العام 2006، وتكرس من بعد ما سمته حماس بـ "الحسم العسكري"، والذي كانت نتائجه على الضفة الغربية مغايرة تمامًا.
وإذا كان العدو قد توجه لاستكمال انسحابه من قطاع غزة في العام 2005، فإنه كان قبل ذلك في العام 2002 قد توجه لإعادة احتلال المناطق المحدود في الضفة الغربية التي كان قد انسحب منها فيما عرف بالمناطق (أ)، وإذا كانت عملية اجتياح المناطق (أ) قد أدت إلى تفكيك بنى المقاومة في الضفة، فإن استمرار الاحتلال للضفة الغربية من بعد اتفاق أوسلو، وخاصة في أرياف الضفة وقراها، وسيطرته على الطرق الواصلة بين مناطق الضفة، شكل عملية استنزاف متواصلة لحركة حماس، إلى درجة أن طلاب الجامعات من المحسوبين على الحركة تكرر عليهم الاعتقال من طرف العدو مرات عديدة أثناء دراستهم الجامعية، حتى أنهى بعضهم دراسته في أكثر من عشر سنوات، وبالذات طلاب الجامعات الواقعة تحت السيطرة الأمنية للعدو كجامعات القدس/ أبو ديس، وبيرزيت.
ورغم ذلك، فإن الضفة احتفظت بقيمتها الوازنة دخل حركة حماس، إلى ما بعد "الحسم العسكري"، حينما تكثفت الجهود المزدوجة لاجتثاث الحركة من الضفة، ما أفقد الحركة حضورها التنظيمي في الجغرافيا الأكبر من فلسطين المحتلة عام 67، وبالتالي إضعاف الحركة من ناحية، وإخلال التوازن الداخلي في صناعة القرار من ناحية ثانية.
في خارج الأرض المحتلة، تمتعت قيادة الحركة بوجود مريح جدًا في سوريا، وبعلاقات مفيدة للغاية مع إيران وحزب الله، ضمنت للحركة تحالفات إقليمية ارتكزت إليها في مواجهة التحديات والصعوبات التي فرضت عليها، وإن لم تكن هذه التحالفات حلاً سحريًا لكل مشاكل الحركة التي بقيت تواجه في كل من الضفة وغزة عمليات الاستئصال المنهجي حتى اندلاع انتفاضة الأقصى.
بيد أن هذا الثقل لقيادة الحركة في الخارج تراجع أولاً لأسباب متعلقة بالتوازن الداخلي في الحركة، وبالذات حينما قامت الحركة من بعد العام 2006 بإعادة توزيع المسؤوليات القيادية ما بين الأقاليم الثلاثة (غزة، الضفة، الخارج) بالتساوي، ولكن وبعد تضخم الحضور التنظيمي للحركة في قطاع غزة، أصبحت مسألة هذا الحضور قضية وجودية بالنسبة لعموم الحركة مع انهيار الضفة وحجم المكتسبات التي تحصلت في القطاع من بعد "الحسم العسكري"، إلا أن التغيرات التي عصفت بالمنطقة العربية وضربت سوريا ودفعت الحركة إلى اجتراح سياسات جديدة لا تزال محل جدل حتى الآن؛ قد أفقدت الحركة حضورها الصلب داخل تحالفها الإقليمي السابق وألجأتها إلى أرض جديدة لا تمنح الحركة الاطمئنان الكافي الذي تمتعت به سابقًا.
يمكن القول إن ثقل الحركة المتركز في قطاع غزة يعاني نزيفًا متواصلاً من بعد انقلاب عبد الفتاح
السيسي وتشديد الحصار على القطاع، ولا سيما بعد الحرب الأخيرة التي شقت جرحًا هائلاً في جسد القطاع، بينما لا تزال كل الاحتمالات مفتوحة بخصوص عدوان جديد من طرف العدو، أو من طرف النظام الانقلابي في مصر، وهذا يعني أن القلق الوجودي بالنسبة لمجمل الحركة في أعلى درجاته توترًا، وكأن على الحركة أن تدفع ثمن المكتسبات التي حققتها في القطاع، وثمن اختلال التوازن الداخلي، وهي كلها نتائج فرضتها الظروف الموضوعية، دون أن تخلو الساحة الداخلية الذاتية تماما من مسؤولياتها عنها.
وإذا كانت ظروف الضفة في ساحتها الفعلية، أي على أرض الضفة نفسها، لا تزال كما هي، فإن الحركة في الخارج تدفع ثمن اضطرارها إلى أرض هشة لا تقوى على حمل حركة من نوع حماس بمهماتها الثقيلة التي تحتاج إلى عناصر إسناد متينة، كما تواجه عمليات استهداف قاسية في عدد من الدول العربية أدت إلى ضرب الحركة في عدد من مفاصلها الحيوية.
إن هذه العناوين الكبيرة لأزمات الحركة الراهنة، وغيرها من الأزمات، ستحيل النقاشات الداخلية إلى عواصف عاتية، وهي تبحث في سبل الخروج، أو تتناول المسؤوليات الداخلية الذاتية عنها.
في هذا السياق لا يبدو أن الحلول السحرية حاضرة، فالعلاقة مع إيران مثلاً حتى لو استئنفت على النحو الذي يريده الإيرانيون، وحتى لو قدمت حلولاً لعدد من المشاكل الهامة، فإنها لن تنهي حصار السيسي لقطاع غزة، ولن تعيد الضفة الغربية إلى مكانتها المطلوبة، ولن تعالج معضلات أخرى كبيرة متعلقة ببلاد عربية أخرى، وهكذا..
ورغم ضرورة البحث الجاد في العوامل الذاتية التي ساهمت في خلق أزمات الحركة الراهنة، فإن هذا البحث ينبغي أن يراعي ثلاثة اعتبارات أساسية:
الأول؛ موقع الحركة المقاوم في بيئة معادية في الأساس، إضافة إلى موازين القوى التي لم تكن في صالح الحركة، والتعقيد الذي أوجدته التحولات الأخيرة في المنطقة بما عقد بدوره القدرة على وضع السياسات المناسبة، فضلاً عن الغموض الاستراتيجي المطبق على المنطقة والعالم؛ يشكل ظروفًا موضوعية أكبر من قدرات الحركة، ينبغي أخذها بعين الاعتبار من حيث فحص الوزن النسبي لكل عامل من العوامل الموضوعية والذاتية.
الثاني؛ أن طبيعة التوزيع القيادي في الحركة، والمؤسس على الانفصال الجغرافي القهري الذي يعانيه شعبنا كله، يحول دون تحمل طرف أو موقع داخلي واحد المسؤولية عن كل أزمات الحركة، وإضافة إلى هذا التصور النظري لتوزيع المسؤوليات، فإن التجربة نفسها تثبت أن الدفع نحو سياسات معينة، أو ممارسة سياسات بالفعل، ساهمت في تعميق أزمات الحركة، قد اقترفه عدد من المواقع داخل الحركة، بحيث أنه لم يقتصر على موقع أو مركز واحد، وهو ما يفرض على الجميع أن يتحمل مسؤولياته بروح الفريق الواحد، وما سوى ذلك فهو هروب إلى الأمام وتنصل من المسؤوليات العامة التي تستغرق الجميع بلا استنثاء.
الثالث؛ أن المطلوب هو معالجة المشكلات لا مفاقمتها، وأهم ما ينبغي الحفاظ عليه في هذه الفترة وحدة الحركة، ووحدة مؤسساتها، ومنع العبث بها من أطراف خارجية، كما أن أهم ما ينبغي الوصول إليه هو وحدة الرؤية والموقف، فإن تمتين الصف الداخلي هو أهم الممكنات الحالية، وأولى الضرورات، فإذا كانت موازين القوى والظروف الخارجية تفوق طاقة الحركة، فإن الأمر ليس كذلك أبدًا في الأولويات الداخلية والمتمثلة أساسًا في معالجة كل ما من شأنه أن يتجاوز أصول التصرف كحركة واحدة أو يمنع إنتاج رؤية واحدة أو يكرس العيوب التنظيمية التقليدية من مراكز نفوذ وظواهر الاستزلام وما شابه ذلك.