لا زال تعبير
النظام الإسلامي يثير الجدل حتى في بعض
التيارات الإسلامية، إلا أن المؤكد أن حضارة سادت العالم اثني عشر قرنا لابد أنها تمتلك نظاما سياسيا وفكرا مختلفا لتنظيم المجتمع، ربما لم نجده مكتوبا بشكل مباشر، ولكنه بالتأكيد موجود داخل التراث الفكري والتاريخي لتلك الحضارة، وموجود داخل شكل وبنية المجتمع الذي كان، وعلينا إعادة قراءته وصياغته بما يحقق الاحتفاظ بالهوية والقيم الكلية الحاكمة.
إن دراسة أي ملف جزئي –كملف العمال– يتطلب أولا تحديد شكل السلطة وطبيعتها داخل المجتمع المبني على مجموعة من الأفكار الكلية، فنجد طبيعة التنظيمات العمالية في النظم الشيوعية تختلف في طبيعتها وأهدافها عنها في النظم اللليبرالية، وهذا يعتمد على مجموعة من الأفكار والمقدمات.
لذا من المفترض تحديد أولا ماذا يميز –كما أرى– النظام السياسي وبنية السلطة داخل النموذج الإسلامي عن غيره.
بالرجوع إلى طبيعة النظام السياسي في التاريخ الإسلامي نجد فارقا مهما تتميز به السلطة السياسية، ألا وهو امتلاك التنظيمات المجتمعية للسلطة بجزء معتبر، وكان رأس النظام السياسي لا يسيطر على كافة ملفات المجتمع، ولكنه كان مقتصرا على بعضها، وكان رأس السلطة في الملفات التي يمتلكها المجتمع يدير السلطة فقط ولا يمتلكها، فمثلا امتلك رأس السلطة سلطة الدعوة للحرب، وامتلك جمع أموال الزكاة والضرائب وغيرها.
ولكن المجتمع كانت تنظيماته تمتلك ملفات عدة كالتعليم والدعوة بل وكان يمتلك جزءا من القوة المسلحة، فلم يكن رأس النظام السياسي يحتكر القوة المسلحة أبدا طوال التاريخ الإسلامي، ولكن نموذج الدولة الحديثة بأشكاله يميل إلى احتكار كل أدوات القوة، وأن تمتلك الدولة كل السلطة والثروة، ويزيد استقطاب السلطة والثروة مع زيادة الاستبداد والفساد، وهذا أحد أهم الاختلافات بين نموذج السلطة في التاريخ والفكر الإسلامي وبين النموذج الغربي.
لا يشير ذلك الفارق إلى انعدام الفساد داخل التاريخ السياسي الإسلامي، ولكن طبيعة وبنية هذا النظام كانت تقلل من حجم وقوة احتكار رأس السلطة لأدوات القوة المجتمعية، وبقيت دائما مساحة واسعة نسبيا، تزيد وتقل طبقا لمستوى فساد رأس السلطة، لامتلاك المجتمع لجزء من السلطة قللت كثيرا من حجم المشاكل الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع الإسلامي.
وكما ذُكِر في المقال الثاني من هذه السلسلة أن التنظيمات العمالية ما قبل محمد علي -صاحب اليد الطولى في تغيير بنية المجتمع المصري- كانت جزءا من سلطة المجتمع كغيرها من الملفات الأخرى، مثل التعليم والدعوة والصحة، وكانت رأس السلطة لا تتدخل في بنية تلك التنظيمات إلا بدعمها المالي والفني، دون التدخل في أفكارها وتوجهاتها، فكانت تقيم المستشفيات والمدارس بنمط تلك الفترة، ولكنها لم تكن تتدخل في طريقة عملها.
لا يظن القارئ أنه دعوة للعودة إلى الأشكال القديمة للمجتمع، ولكنه بالتأكيد رغبة في العودة إلى النموذج القديم المستنبط من الأسس الفكرية والقيمية للمجتمع الإسلامي، دون التقيد بشكل الإجراءات، ولكن بالتقيد ببنية النموذج الذي يختلف حتما مع نموذج الدولة الحديثة التي نعيش فيها، وللاستزادة من تلك الفكرة هناك مؤلف قيم للدكتور وائل الحلاق بعنوان: الدولة المستحيلة، يستفيض في هذا المجال الذي لا يتسع هذا المقال لتناوله بالعمق الكافي.
والملف العمالي أحد تلك الملفات التي ينبغي إعادة بناء تنظيماتها بما يتوافق مع هذه المفاهيم، وكانت بنية التنظيمات العمالية في شكل الطوائف العمالية، وكان كل قطاع عمالي له من استقلالية العمل، ما حقق نوعا من التكافل الاجتماعي والتطوير الفني للمهنة، بعيدا عن سلطة الدولة، كما كان يمتلك السلطة الكاملة داخل القطاع واختيار المسؤولين ونقباء الطوائف.
ومن هذا المفهوم الذي أنتج مجموعة من الإجراءات حققت استقلالا حقيقيا لقطاع العمال عن سلطة رأس النظام، نرى أن الخطوة الأولى في بناء التنظيمات العمالية هي استقلالها عن سلطة رأس النظام المركزية، وعدم التعامل معها داخل البناء الهرمي للدولة الحديثة، سواء بشكلها الليبرالي أو الماركسي الذي يجعل من العمال طبقة منفصلة، سواء كانت ساعية للوصول إلى رأس السلطة -كما في النموذج الماركسي- أو ساعية للحصول على حقوقها المادية والأدبية في النماذج الأخرى.
تظهر نقطة هامة، ألا وهي اختلاف طبيعة النظام الصناعي قديما عنه بعد الثورة الصناعية، فالعمل سابقا يعتمد على وحدات صغيرة مستقلة، ولم يكن هناك حالة صراع بين قوة رأس المال وقوة العمل، ولم تكن نشأت بعد المنشآت الضخمة المتعددة التخصصات، لذا علينا أن نأخذ من النموذج القديم المفاهيم والأفكار بعيدا عن طبيعة الإجراءات التنظيمية للطوائف (
النقابات العمالية).
وبالنظر إلى ملف العمال في مصر، نجد أن التنظيمات العمالية تعرضت لحالة من التأميم الكامل لها على مدى العقود السابقة، ما نزع منها سلطتها تماما، وأجبرت على الدخول في المجال السياسي، ما أنهى دورها تماما، وفي تلك القضية ينبغي إلغاء أي تجمعات تضع سيطرة القطاعات العمالية في نقطة واحدة، كالاتحاد العام لنقابات عمال مصر مثلا. ومصر كحالة خاصة في المرحلة الانتقالية إذا قدر لنا القضاء على هذه الدولة العفنة، ينبغي تجريم أي تدخل من السلطة التنفيذية بأجهزتها الأمنية في العمل النقابي العمالي.
النقطة الهامة الثالثة في أسس بناء التنظيمات العمالية هي ضرورة عدم اشتراكها في العمل السياسي، وعلينا أن نفرق بين العمل السياسي والعمل السلطوي، العمل السياسي هدفه الوصول لرأس النظام الحاكم، سواء التشريعي أو التنفيذي لتطبيق أفكاره وإجراءاته على المجتمع بما يرى أنه الأفضل، أما السلطة فهي القوة اللازمة لإحداث ذلك التغيير، سواء القوة المادية أو المعنوية، لذا ينبغي أن تمتلك المؤسسات العمالية السلطة اللازمة لإدارة نفسها بعيدا عن إجراءات العمل السياسي.
وهنا تظهر مشكلة رئيسية، وهي أن أي مجتمع سيفشل في بناء تنظيمات مجتمعية إذا لم يحدد هويته وأفكاره الكلية، وهذا ما نجح فيه الغرب، وفشلت فيه المجتمعات العربية التي لا تزال تتصارع على هويتها، والتي يبدو أنها أصل المعركة وجذرها العميق. فالأصول الفكرية للمجتمع يجب الاستقرار عليها، حيث يبني المجتمع علاقاته على هذه الأسس ، وحتى لو تشابه شكل الإجراءات، فوجودها داخل منظومات فكرية مختلفة لا يجعلها متشابهة المضامين، ويكون الصراع السياسي بكل أشكاله بعيدا عن الأفكار الكلية وعن التلاعب بهوية المجتمع، لذا يجب أولا حسم الهوية والأفكار الكلية حتى لا ندور في حلقات مفرغة فقط تثير الغبار.
النقطة الرابعة هي إنتاج كوادر عمالية ونقابية حقيقية مخلصة، تؤمن بالمفاهيم الرئيسية وشكل وطبيعة سلطة النقابات العمالية في النموذج الإسلامي، وهذه الكوادر المنتجة من داخل القطاع العمالي يمكنها بناء منظومة نقابية عمالية تستطيع بها استعادة سلطة العمال، والارتفاع بالمستوى المالي والفني بعد الانهيار الكبير الذي سببته السلطة العسكرية المستبدة على مدى العقود السوداء السابقة.
هذه هي المحاور والمفاهيم الرئيسية التي أراها ضرورية وواجبة على قيادات التيار العمالي الإسلامي، التي تستطيع بها الحصول على حقوق العمال المنتهكة، وإنتاج منظمات عمالية تحت مظلة الفكر الإسلامي، وهذه المفاهيم تحتوي العديد من الإجراءات التنفيذية، كقانون العمل وقوانين الحريات النقابية، وتحديد الحد الأدنى للأجور، وإنتاج بيئة عمل مناسبة وآدمية، وإنتاج آليات الحفاظ على جودة المهنة والكثير غيرها من الإجراءات.
وتلك الأمور تحتاج إلى مجموعة من ورش العمل تحت مظلة مؤسسة عمالية متخصصة من المتخصصين والمهتمين بالشأن العمالي، والمهتمين ببناء نموذج لنظام السلطة الإسلامي، حتى نستطيع تكوين صورة كاملة ومتماسكة تعيننا على المعركة الكبيرة مع الأنظمة الفاسدة المتعاقبة التي حطمت قطاع العمال في مصر، بل وحطمت مصر بأسرها، ولتنقذ أيضا الفكر الإسلامي من مراوحة المكان في ملف العمال، ولتنقذه من حصار نموذج الدولة الحديثة لأفكاره.