ما إن يَنشر تنظيم الدولة تسجيلا من تسجيلاته الدموية، المظهرة لزهوه وتخايله بقتل رهائنه وأسراه، حتى تتعالى الأصوات الشاجبة والمستنكرة، معبرة عن غضبها وسخطها ورفضها لتلك الممارسات السادية التي يتلذذ أصحابها بتعذيب الآخرين وسحقهم.
ومن بين أوساط الشاجبين والمستنكرين، تبرز توجهات تنحو باللائمة على الموروث الديني، باعتباره المخزن الحاوي للمُوَجِّهات الدينية، والحافظ للأفكار العقائدية المؤسِّسة لمنظومات الغلو والتطرف والعنف، ما دفعها لمهاجمته بشدة وقسوة.
ووفقا لأرباب تلك التوجهات، فإن استراتيجية مكافحة
التطرف والعنف، حتى تُؤتي أكلها يلزمها الاشتغال الجدي بتفكيك تلك الأصول، وإماتة جملة الأفكار المنتجة للعنف، عبر غربلة شاملة للتراث الديني، تخلصه من مقولات احتكار الحقيقة المطلقة، وما يتولد عنها من أنماط احتقار المخالف وتضليله وإقصائه وسحقه، وممارسة الاستبداد والقهر والإكراه باسم الدين.
غير أن تلك الأصوات تُقابل برؤى معارضة، تُرجع أسباب التطرف والعنف - في معظمها - إلى ظروف موضوعية حاكمة، تتمثل في الاستبداد السلطوي، والظلم السياسي والاجتماعي، والتبعية للخارج، ولا يعدو العامل العقائدي الديني أن يكون ثانويا ولاحقا، لغايات الشرعنة والتسويغ.
فما مدى إسهام الموروث الديني في إنتاج العنف والتطرف في العالم الإسلامي؟ وكيف يمكن الموازنة بين عوامل إنتاج العنف والتطرف في العالم الإسلامي بين الأسباب الذاتية الكامنة في مقولات إسلامية شائعة ومتداولة، وبين العوامل الموضوعية على اختلاف مستوياتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية؟
الدين ينهى عن التطرف ويحذر منه
إذا كانت النصوص الشرعية في القرآن الكريم والسنة النبوية تنهى عن التطرف الديني وتحذر منه (المعبر عنه بلسان الشرع بالغلو) فما هي أسباب شيوعه وانتشاره في أوساط بعض المتدينين؟ ولماذا تنتشر هنا وهناك ممارسات دينية توصف بالتشدد والغلو؟
بحسب الكاتب المصري المهتم بالتراث الديني، عبد القادر وحيد في حديثه لـ"
عربي21" فإن التطرف الديني ينشأ عن سوء فهم الدين في أصوله وأحكامه، والجهل في فهم مقاصده، وقد ورد النهي عن الغلو في الدين كما في قوله تعالى: (لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق).
ووفقا للكاتب المصري عبد القادر فإن من صور الغلو التي تشيع بين المتدينين، التشبث بتأويلات خاطئة، تختارها بعض الاتجاهات الدينية، فتترسخ في عقلها الجمعي على أنها من قطعيات الدين وثوابته، وهو ما يجعل الآخرين يلصقون صفة التشدد والغلو بالموروث الديني الذي أنتجه الفهم البشري في قراءته للنصوص الشرعية الأصلية.
من جانبه وفي سياق مقارب، أوضح الأكاديمي السوري المتخصص في العلوم الشرعية، الدكتور عداب الحمش، "أن الموروث الثقافي هو نتاج البيئة الحاضنة، بل المنشئة له، ولا يصح بحال أن ننظر إلى الموروث التراثي العنفي تنظيرا وتطبيقا بعيدا عن الأعراف الاجتماعية والسياسية السائدة داخل الجزيرة العربية وخارجها".
وبحسب الدكتور الحمش "فقد كان المحيط العربي والجوار الفارسي والروماني، ليس لديه منهج تعاملي مع الخصم سوى الاستئصال"، ورغم ذلك كله فإن الفهم والتطبيق النبوي للنصوص القرآنية أفرز قتل أقل من ألف رجل وثلاث نسوة على مدى عمر الرسالة الشريفة، وهذا عنف اضطراري ليس في تاريخ الأمم أقل حجما منه.
وأضاف الحمش لـ"
عربي21" قائلا: لذلك خاطب الله نبيه بقوله (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)، لكنه حينما انتقل إلى الآخرة، تعامل البشر مع البشر في غياب شخص الرسول، فوقعت ضحايا بشرية كثيرة في التطبيق، ونشأت أفكار منحرفة في التنظير بسبب الفارق الكبير بين شخصية النبي وغيره على المستويين الفكري والسلوكي.
وانتقد الحمش ما وصفه بقوله: "وفي تاريخنا انقلبت أخطاء فلان وفلان البشرية إلى بطولات وأمجاد نتغنى بها، وبهذا المفهوم المنحرف لفهم حقائق التاريخ تأثر واقعنا بالموروث الثقافي أو التراثي المصبوغ بالدم"، على حد وصفه.
أي موروث ديني ينتج التطرف والعنف؟
إذا كان أصحاب تلك الأصوات التي تُرجع تنامي التطرف والعنف إلى
الموروثات الدينية كعوامل أساسية منتجة، فما هي الأفكار والموضوعات في تلك الموروثات المسؤولة عن إنتاج التطرف؟ وكيف تشكلت وما هي آلية عملها المنتجة لها؟
بكلام صريح ومباشر حدد الدكتور جلال العوني، الباحث المغربي الناقد للتراث الديني، عدة نقاط كاشفة لطبيعة العقلية الدينية السائدة، المنتجة للتطرف والعنف، والتي تشكلت بفعل الموروثات الدينية المنقولة والمتداولة، والتي يخضع لها العقل المسلم باعتبارها مسلمات دينية راسخة.
أول تلك النقاط الكاشفة طبقا للدكتور العوني، هي "ادّعاء امتلاك الحقيقة المطلقة"، وغياب نسبية المعرفة عن أتباع الموروثات الدينية، ما أنتج حالة من الزهو والشموخ على الآخرين، باعتبارهم حملة الحقيقة المطلقة فما على الآخرين إلا اتباعهم والتسليم لهم بكل ما عندهم.
وثاني تلك المقولات الكاشفة "وهم التماهي بين الفهم البشري والمراد الإلهي"، ما رفع القراءة البشرية للنص الإلهي إلى علوية الأخير وقداسته، مع أنها في حقيقتها لا تعدو أن تكون قراءة بشرية، كما أن غيرها كذلك قراءات بشرية، قابلة للنقد والمراجعة والتقويم.
وبحسب قراءة الباحث المغربي الناقدة للتراث الديني، فقد نتج عن النقطتين الأولى والثانية، ما أسماه "بداية الإقصاء ومحاربة المخالف"، فشاعت في الموروث الديني مقولات "عدوانية إقصائية" كـ"قتل المرتد" لإقصائه وسحقه، و"قتل الكافر سواء كان محاربا أم مسالما"، و"التضييق على أهل الكتاب"، وكلها تفضي إلى محاربة "كل من يخالفنا في الرأي والمعتقد"، وقتله والقضاء عليه.
وتابع الدكتور العوني نقده للموروثات الدينية قائلا: لقد أفضت تلك العقلية المحتكرة للحقيقة والمقصية للمخالف (أيا كان) إلى "ممارسة الاستبداد بثوب ديني و تحت عناوين دينية"، منتقدا بشدة "مفهوم الحاكمية" الذي وصفه بأنه "يكرس قمة التطرف"؛ لأنه لا يعرف إلا نمطا واحدا في الرأي والتطبيق.
وردا على سؤال "
عربي21" حول مدى تفريقه في نقده بين ما هو ديني ثابت، وبين ما هو اجتهاد بشري عابر، أوضح العوني أن تلك الموروثات التي ينتقدها لم تثبت بالنص الديني القطعي (القرآن) وأن المرويات الحديثية عليها إشكالات كثيرة من جهة الثبوت والنقل وموافقتها للقرآن، كما أن أقوال الفقهاء واجتهاداتهم جهود بشرية محكومة بزمنيتها وتاريخيتها.
للتطرف عوامل متعددة.. الموروث الديني أحدها
بقراءة مغايرة وبرؤية مخالفة، رأى الكاتب الأردني المهتم بالفكر الديني الدكتور حسين الرواشدة، أن من الخطأ الجسيم إرجاع تنامي ظاهرة التطرف وازدياد وتيرة العنف إلى الموروث الديني، فثمة أسباب هامة، وعوامل فاعلة ومؤثرة ساهمت بشكل كبير ومباشر في إنتاج ذلك كله.
لم ينكر الرواشدة وجود مخزون (أفكار ومقولات وممارسات) يدعو إلى التطرف في موروثنا الديني، مستدركا بقوله: لكنه كما هو موجود عندنا فهو موجود عند سائر الأمم الأخرى. لافتا إلى أن ثمة محاولات لزج الإسلام في أتون معركة عنوانها (ضد
الإرهاب والتطرف) بدعوى أن جزءا من التطرف ينسب إلى الدين.
وأشار الرواشدة إلى وجود مطالبات تسعى إلى نسبة التطرف للإسلام، كتلك التي ظهرت على خلفية تصريحات الرئيس الأمريكي أوباما الأخيرة، التي أثارت تعليقات تدور حول: هل التطرف إسلامي أم أنه من فعل متشددين إسلاميين، مع ظهور أصوات تطالب بنسبة التطرف إلى الإسلام نفسه؟
وردا على سؤال "
عربي21" بشأن حجم ذلك المخزون في الموروث الديني المنتج للتطرف، قال الرواشدة: "يجب أن نضع تلك المقولات والآراء والتجارب التاريخية المغذية للتطرف في حجمها الطبيعي، وسياقاتها التاريخية الخاصة بها، فلا تحملنا تلك البقع السوداء الصغيرة، على صبغ تاريخنا الحضاري الجميل والمشرق بسوداويتها المظلمة".
وحول موقع العامل الديني بين العوامل الأخرى في إنتاج التطرف، أكدّ الرواشدة أن معادلة التطرف تتداخل في صناعتها عوامل كثيرة، منها ما هو سياسي كالاستبداد والقهر والقمع، وثمة عوامل اجتماعية واقتصادية وفكرية مختلفة، لكن العامل الديني بامتداداته التاريخية (التراثية) يمكن اعتباره أحد العوامل، لكنه لا يعمل بمفرده، وإنما ينشط أو يضعف تبعا للعوامل الأخرى الفاعلة والمؤثرة.
وخلص الرواشدة إلى القول بأنه لا يمكن اعتبار الفكر الديني أو (الموروث الديني) منشئًا لحالات التطرف والعنف، بل إنه يأتي تابعا للعوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية المولدة والمنتجة لحالات التطرف والعنف في الأساس، ما يعني ضرورة معالجة تلك العوامل الموضوعية أولا.