أظهرت جبهة
النصرة منذ تأسيسها نهجا براغماتيا لافتا في التعامل مع تعقيدات المشهد السوري، وحاولت رغم صلاتها التأسيسة بالفرع العراقي المتمرد على تنظيم
القاعدة المركزي تجنب الوقوع في صدام مع حواضنها الاجتماعية المحلية والتنسيق مع كافة الفصائل والقوى الثورية السورية على اختلاف إيديولوجياتها وتوجهاتها الفكرية والتنظيمية وارتباطاتها الإقليمية والدولية، وقد برهنت إبان صعودها عن قدرتها ومرونتها بالتكيّف مع المشهد الثوري المتقلب، وعلى الرغم من ارتباطها بتنظيم القاعدة إلا أنها حافظت على نهج معتدل نسبيا في تدبير الخلافات مع الفصائل المقاتلة المحلية، لكن صعود تنظيم الدولة الإسلامية وبروز التدخلات الإيرانية وتشكيل التحالف الدولي، عمّق من أزمة النصرة الإيديولوجية والتنظيمية باعتبارها حركة إرهابية، وباتت مستهدفة من كافة القوى المحلية والإقليمية والدولية.
لعل مقتل القائد العسكري لجبهة النصرة
أبو همام الشامي في 5 آذار/ مارس 2015، إلى جانب عدد من القيادات البارزة (أبو عمر الكردي، وأبو مصعب الفلسطيني، وأبو البراء الأنصاري)، يكشف عن عمق الأزمة التي تعاني منها جبهة النصرة، إذ لم تصدر النصرة بيانا يوضح ملابسات عملية قتله مع رفاقه، وهل هي بغارة جوية لقوات التحالف أم أنها بقصف لطائرات النظام أم بعملية من أحد الفصائل أم نتيجة لصراع داخل النصرة، أم هي عملية مركبة من جهات عديدة، وهل تؤسس عملية اغتيال الشامي مرحلة جديدة في مسار جبهة النصرة كما حدث عقب اغتيال أبو خالد السوري، فقد تزامنت عملية اغتيال أبو همام الشامي مع بروز الجدل حول إمكانية فك ارتباط جبهة النصرة مع تنظيم القاعدة والتكيّف مع الشأن المحلي، وإذا كان مقتل أبو خالد السوري قد حسم توجهات النصرة آنذاك باتجاه تعريف تنظيم الدولة الإسلامية كعدو تجب محاربته والذي كان يعارضه السوري، فإن الشامي كان يعارض تعريف حركات وفصائل مسلحة كحركة حزم وجبهة ثوار سوريا وغيرها كصديق، ولعل غيابه يفضي إلى دخول النصرة في تكيّفات وتحولات جديدة تشدد على هويتها السورية المحلية وحسم علاقاتها مع المقاتلين العرب والأجانب، وفق عملية تفضي إلى محاولة إعادة تأهيلها واستدخالها كقوة مستقبلية معتدلة.
يمثل أبو همام الشامي (سمير حجازي) أحد أهم القيادات الجهادية المعولمة داخل جبهة النصرة، فهو يتوافر على تاريخ جهادي حافل فقد عرف داخل تنظيم القاعدة بــ "فاروق السوري"، ذهب إلى أفغانستان أواخر تسعينيات القرن الماضي (1998-1999)، والتحق بأبي مصعب السوري لمدة عام في معسكر "الغرباء"، وعين أميراً على منطقة المطار في قندهار، وهو من القلائل الذين كانوا لا يزالون على قيد الحياة ممن تعاملوا مع أسامة بن لادن وأبو مصعب السوري وأبو مصعب الزرقاوي وأبو حمزة المهاجر، وقد بايع أسامة بن لادن الذي عيّنه مسؤولاً عن السوريين في أفغانستان، وشارك في بعض معارك القاعدة، وقد بعثه المسؤول العسكري للقاعدة مصطفى أبو اليزيد إلى العراق أثناء تحضير الولايات المتحدة لغزو العراق، ثم اعتقل على يد المخابرات العراقية وتم تسليمه لسوريا، التي أطلقت سراحه، حيث عاد إلى العراق واستلم منصب المسؤول العسكري لمكتب "خدمات المجاهدين"، إلا أن الأمن السوري اعتقله مجدداً عام 2005 ضمن حملة أمنية واسعة قام بها ضد متهمين ومتورطين بما وصفها بـ"أعمال إرهابية أو تنظيمات جهادية ودينية متشددة"، ثم أطلق سراحه مرة أخرى فغادر إلى لبنان، ومنه عاد إلى أفغانستان مجدداً، قبل أن تطلب منه قيادة القاعدة العودة إلى سوريا، وفي طريق عودته إلى سوريا اعتقل مجدداً في لبنان، لمدة خمس سنوات، وفور الإفراج عنه 2012 دخل سوريا والتحق بـ"جبهة النصرة"، وشغل منصب القائد العسكري العام للجبهة.
لقد حافظت جبهة النصرة على مدى سنوات على نهج يقوم على الحفاظ على علاقات ودية مع كافة فصائل الثورة السورية، وتجنبت الصدام مع كافة القوى المحلية والإقليمية والدولية، وقدمت تطمينات عديدة بعدم فرض رؤيتها حول مستقبل سوريا واعتماد منهج الشورى في تدبير الخلافات وإدارة المناطق المحررة، والحرص على تقديم الخدمات والإغاثة للجميع، وعدم الانفراد في تحديد شكل الحكم، وتأجيل موضوع تطبيق الحدود وإقامة الشريعة، إلا أن ذلك لم يفلح في إعادة النظر بالتعامل مع النصرة كحركة إرهابية.
عندما تشكل التحالف الدولي للتصدي لتنظيم الدولة الإسلامية، كانت جبهة النصرة هدفا مفضلا لغارات التحالف الجوية منذ 23 أيلول/ سبتمبر الماضي، وفي الوقت نفسه بدأت الفصائل والقوى السورية الموسومة بالاعتدال من طرف الولايات المتحدة وحلفائها تنشط في تقديم خدماتها للحلول مكان الحركات الإسلامية الموصوفة بالتطرف والإرهاب، وبعد ستة أسابيع من بدء الضربات الجوية في سوريا حسمت جبهة النصرة والحركات الإسلامية أمرها بالتعامل مع حلفاء أمريكا وشركائها المحليين باعتبارهم "عملاء"، ودخلت مؤخرا جبهة النصرة في صدام مسلح في ريف إدلب، واستولت على معاقل كل من "جبهة ثوار سوريا"، وحركة "حزم"، وباتت المنطقة تقع تحت سيطرتها التامة.
انتصارات جبهة النصرة بقيادة أبو همام الشامي على الفصائل المعروفة بقربها من الولايات المتحدة حلفائها الإقليميين كانت مزعجة لقوات الحلفاء التي تعمل على بناء معارضة محلية سورية معتدلة، فهي تعيد إلى الأذهان صورة جبهة النصرة التي فقدتها منذ الخلاف والصدام مع أشقائها في تنظيم الدولة الإسلامية، عندما كانت تحقق نجاحات كبيرة، وتستقطب مقاتلين محليين وأجانب، وتتمتع بدعم واسع النطاق من الجهادية العالمية، فقد تمكنت النصرة حتى كانون أول/ ديسمبر 2012 من تنفيذ عمليات كبيرة، وأعلنت عن مسؤوليتها عن أكثر من 500 هجوم، منها سلسلة من الهجمات الانتحارية.
وبفضل تميزها عن جماعات الثوار العاملة في سوريا، فقد اكتسبت شرعية لدى أفضل المُنظرين الجهاديين في العالم، الذين دعوا المناصرين على المستويات الشعبية في جميع أنحاء العالم إلى المساعدة في تمويل الجماعة أو الانضمام إليها، وقتها لم تنتظر الولايات المتحدة طويلا على محاولة "جبهة النصرة" التعمية على هويتها وانتمائها، فقد أدرجتها على قائمة الإرهاب في 11 كانون أول/ ديسمبر 2012، واعتبرتها امتداداً للفرع العراقي للقاعدة والمعروف باسم دولة العراق الإسلامية. وكما فعلت إدارة أوباما آنذاك بمحاولة وأد صعود "جبهة النصرة" في المهد وعزلها من خلال تصنيفها كمنظمة إرهابية، هي الآن تعمل على وأدها عسكريا وتفكيكها استخباريا.
مقتل أبو همام الشامي ورفاقه واستهداف الجناح المعولم داخل النصرة ممثلا بمجموعة "خراسان" سوف يفضي إلى مزيد من التصدع في صفوف النصرة، وقد نشهد سلسلة من الانشقاقات، وبروز نهج مختلف في التعامل مع تطورات مشهد الثورة السورية والحالة الإقليمية والدولية المرتبكة، فالنصرة لا تتوافر على هوية إيديولوجية متجانسة ولا تنظيم مركزي متماسك، وهي في حالة مراجعة دائمة وأجنحة متصارعة وأهداف متبدلة، وخياراتها محدودة، ومعظم المقاتلين العرب والأجانب في حالة من الارتباك والشك وخياراتهم تتجه صوب الالتحاق بتنظيم الدولة الإسلامية، فحروب الأنصار أوشكت على نهايتها والحواضن الشعبية المحلية لم تعد كما كانت عليه، وبهذا فالنصرة كما عرفناها توشك على الأفول والزوال بانتظار سلالات جديدة عنوانها مفارقة تنظيم القاعدة وتأسيس معتدلي التحالف الدولي وأخرى تنتظر معانقة الدولة الإسلامية.