كتب كمال أوزتورك: جميع الأخبار جاءت متتابعة؛ الأخبار التي تضعف طاقة الإنسان وتسمّره في مكانه وتخنقه بالأحزان! الأخبار العميقة والقاسية لدرجة تجرح
الإنسانية...
مقبرة جماعية في البوسنة
لقد أمضيت 20 يوماً في حرب
البوسنة عام 1995؛ كنت في السادسة والعشرين من عمري حين رأيت لأول مرة حياة الحروب والقتلى والجرحى والإبادات الجماعية وشعب البوسنة المحاصر...
أمارس مهنتي كإعلامي؛ بيدي كاميرا، وبداخلي غضب، وبعيني دموع... ولكنني في الحقيقة كنت أعيش أقسى تجربة في حياتي مع المتطوعين الأتراك الذين جاؤوا ليتقاسموا الألم والهموم مع شعب البوسنة.
امرأة شابة من البوسنة تقف عند قبر جديد ملتف بالزهور جعلتني أسقط على ركبتي، من الواضح أنه زوجها الذي تزوجته حديثاً، سقط شهيداً، وكانت تروي تراب قبره بدموعها! حينها شعرت بإحدى أقوى الهزات التي هزت كياني في حياتي... عروس جديدة، قبر جديد، وشهيد جديد!
في ذلك اليوم رأيت أن الإنسانية ماتت ودفنت مع دموع المرأة في ذلك القبر! البوسنة هي ثاني أبشع جرائم الغرب بعد الأندلس، فقد صمتت أوروبا عن إبادة شعب البوسنة لأنها لا تريد مسلمين في أرضها!
لقد أعيد فتح ملف
المقابر الجماعية في البوسنة أمس وأعيد نشر الصور؛ الأطفال النساء والشيوخ قتلوا ودفنوا في حفر! لو أن العالم الإسلامي حينها تمكن من إيقاف المجزرة في البوسنة، لما رأينا اليوم لا غزة ولا سوريا! رحم الله "أوزال"، فقد حاول كثيراً أن يوقف الحرب في البوسنة، لكن قوة
تركيا لم تكن كافية.
بدأت الإعدامات في مصر واشتعل ميدان رابعة من جديد
حين كنت أشارك مؤيدي مرسي في ميدان رابعة إفطارهم لاحظت لأول مرة أن هؤلاء الناس جاهزون للموت! في تلك الليلة نمنا في الميدان، 100 ألف شخص، وفي اليوم التالي تجمع مليون شخص في صلاة الجمعة. أولئك الذين كانوا يرمون الهليكوبترات المحلقة فوقهم بالشعارات، والذين حوّل الغضب بداخلهم حر الصيف إلى جهنم، كان الموت عندهم أهون من ترك الميدان، فقد سُلب منهم أول رئيس انتخبوه بحرّ إرادتهم منذ زمن الفراعنة! الفقراء الذين سُرق خبزهم، والبدو الذين سرق ماؤهم، والمساكين الجياع جميعهم كانوا هناك.
في 16 آب/ أغسطس 2013 اقتحم الجيش والمدرعات الميدان، وقد فعل الذين في الميدان ما قالوا، ماتوا ولم يتركوا الميدان! ثم تلقيت خبر موت هؤلاء الذين أفطرت معهم قتلاً بالرصاص أو سحقاً تحت الدبابات أو حرقاً...! فكان ميدان رابعة مثل البوسنة شاهداً على كذبة الديمقراطية والحرية في الغرب.
محمد رمضان أحد الشباب الذين قاوموا الانقلاب في ذلك الميدان، أعدم من قبل نظام السيسي باتهامات غير معقولة، وكان أول إعدام قامت به سلطة الانقلاب، فلا يشك أحد في أن هناك إعدامات أخرى ستأتي بعده.
"أردوغان" الذي كان في ذلك الوقت رئيساً للوزراء حاول كثيراً منع الانقلاب العسكري، وتحدث كثيراً للغرب عن ضرورة تحقيق الديمقراطية في مصر، ولكن قوة تركيا لم تكف لإيقاف الانقلاب، فهدموا الديمقراطية التي لم تبلغ من العمر سوى عام واحد، وقتلوا 5000 شخص في ميدان رابعة.
جبل التركمان.. مخيم أطمة.. وحطام حلب!
مخيم "أطمة" للاجئين يقع مباشرة بجانب الحدود السورية، التي عبرتها بشكل غير رسمي. كان يعيش هناك آلاف النساء والأطفال والشيوخ تحت حر الصحراء، فوق الأرض المشتعلة في خيام من قماش، لقد كان منظراً مخيفاً لدرجة أن الموت كان يبدو أهون لهم أحياناً!
وحين دخلت حلب قهرني الوضع الذي وصلت إليه هذه الحضارة العريقة، فقد تهدمت قلعتها التي بنتها الدولة العثمانية بكل عناية، وتهدمت أسواقها وجوامعها!
الشوارع خالية والموت في كل مكان! هذه المدينة التي كانت جوهرة بلاد الشام والدولة العثمانية ومهد الحضارات تحولت إلى موطن الجرائم والقتل الموحش...
جماعات من المعارضة قتلت بعضها أمامنا، وقد كان القاتل والمقتول يُكبِّران!
لن أتحدث مرة أخرى عن الدول الغربية، فيكفي العالم العربي أنه سيحمل عار سوريا معه لأجيال طويلة قادمة، فقد صمتوا عن قتل الأخ أخاه لمصالح رخيصة، بل وحثوهم على هذا!
تركيا سعت كثيراً لإيقاف هذه الحرب الأهلية، وقد ذهب "أحمد داود أوغلو" -الذي كان وزيراً للخارجية حينها- وحاول مراراً إقناعهم. ولكنه لم يتكمن، ولم تكف قوتنا لإقناعهم، وتحولت سوريا إلى مشرحة يقتل فيها الأخ أخاه.
يوم أمس قامت قوات الأسد بتفجير مناطق بالقرب من جبل التركمان ومخيم "أطمة"، ومات وجرح مئات المدنيين مجدداً، فلجأ أطفال المخيم إلى خيامهم من الخوف، وكأنها ستحميهم! ولكن العالم أجمع لم يفعل شيئاً مجدداً، ولم يسمع!
كل شيء مثل فيلم.. مثل كابوس نظنه سينتهي، ولكنه لا ينتهي!
وتأتي الأخبار كالمصائب من كل اتجاه، وتركيا تقف بين كرات النار، وتسعى لإخمادها، فهم شعب يذرف دموعه بكل فئاته، من فلاحين وقرويين ومدنيين وطلاب جامعات، لأجل إخوانهم.
إذا ازدادت قوة تركيا، مع شعبها هذا فإنها ستتمكن من إيقاف كل هذه الحروب اللاأخلاقية والآلام، ولهذا فإن علينا أن نعمل في السياسة؛ لنوقف هذه الآلام... علينا أن ننشئ تركيا جديدة قوية!
(عن صحيفة يني شفق)