يتبادل الطرفان المهيمنان على الواقع السياسي لكل من الطائفتين السنية والشيعية في
لبنان، تيار المستقبل وحزب الله، الادعاء بأسبقية وشرف العمل على تجنيب لبنان شبح الفتنة المذهبية التي تعصف بالعراق وسوريا واليمن، وليست بعيدةً عن أكثر من دولة خليجية.
فحزب الله يقول إنه يضمن عدم انفجار حرب أهلية في لبنان بين
السنة والشيعة لأنه، بحسب ما يعبّر الناطقون باسمه، لا يريد هذه
الحرب ولديه من القوة والنفوذ ما يجعله قادراً على وأدها في مهدها. أما على الجانب الآخر فإن تيار المستقبل يردد بأن خياره مشروع الدولة اللبنانية الجامعة، وهو لم ولن يلجأ إلى تبني فكرة "الدويلة" التي يتهم حزبَ الله بإنشائها وبامتلاك قدرات عسكرية ولوجستية ومؤسساتية توازي مؤسسات الدولة المركزية وتتفوق عليها في بعض الأحيان، ويكرر برلمانيو "المستقبل" مقولة المؤسس الرئيس رفيق الحريري بأن سلاحهم هو القلم.
لكن هل يكفي تعاون الحزب والتيار وائتلافهما في حكومة "المصلحة الوطنية"، ثم تطورُ العلاقة بينهما إلى إطلاق حوار لا يزال مفتوحاً، هل يكفي لإطفاء فتيل الحرب المتسللة من سوريا إلى لبنان من بوابة سلسلة جباله الشرقية في البقاع، خصوصاً وأن حزب الله بات طرفاً رئيسياً في هذه الحرب الدائرة هناك تحت شعارات دينية؟
يميل مراقبون محايدون إلى التصديق بأن لبنان لن يستورد الحرب المذهبية بالمعنى العسكري للاعتبارات التالية:
أولاً: بينما كانت المحكمة الدولية الخاصة بلبنان تعلن اتهام مجموعة أفراد من حزب الله بالضلوع بجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، كان تيار المستقبل يغربل في فبراير شباط من العام الماضي أسماء مرشحيه لدخول حكومة الرئيس المحسوب عليه تمام سلام وبالشراكة مع عدة أطراف سياسية لبنانية على رأسها حزب الله، ما يعني أن "المستقبل" تجاوز بنجاح أصعب اختبار مع فكرة التعايش مع حزب الله.
ثانياً: يتبنى تيار المستقبل استراتيجية المملكة العربية السعودية بأولوية مواجهة الجماعات الإسلامية السنية المتشددة، وهي استراتيجية لم يطرأ عليها حتى الآن أي تعديل رسمي.
ثالثاً: بعد أن نجح حزب الله بإقناع حليفيه المسيحيين التيار الوطني الحر بزعامة النائب ميشال عون وتيار المردة بزعامة النائب سليمان فرنجية بأن قتاله في سوريا هو دفاع عن لبنان المعرّض للغزو من قبل "الإرهاب"، اتسع جمهور هذه النظرية في لبنان ليشمل شرائح غير مؤيدة لحزب الله لكنها في الوقت نفسه تضع الأولوية لإبعاد خطر "التشدد". وقد ذهب السيد نصرالله إلى أبعد من ذلك بكثير عندما دعا في شباط الماضي رئيس تيار المستقبل النائب سعد الحريري إلى "الذهاب سوياً للقتال في سوريا بسبب خطر الإرهاب الجدي والحقيقي على المنطقة التي يُقرَّر مصيرها كلها".
رابعاً: يتعمد حزب الله إرضاء تيار المستقبل في اللعبة السياسية الداخلية من خلال الإعتراف العملاني بتمثيله السياسي الراجح للطائفة السنية، ومن خلال تجميد نشاطات ميليشيا "سرايا المقاومة" في المناطق السنية.
خامساً: إن الأطراف السنية التي لا تدور في فلك تيار المستقبل من تيار الرئيس نجيب ميقاتي في شمالي لبنان، إلى الهيئات الإسلامية والقومية والشخصيات المستقلة، ليس في برنامجها جميعها أي تطلع لإنشاء ميليشيات مسلحة أو للسير في مشروع الفتنة، رغم الشهية المفتوحة للتسلح عند بعض الشرائح الشعبية السنية التي تعتبر أن ما تصفه بالغبن اللاحق بالطائفة السنية لا يمكن محوه بـ"أقلام الحريري".
سادساً: نجح حزب الله بمساعدةٍ من وسائل إعلامية لبنانية نافذة بتهيئة الأرضية المناسبة لضرب مؤسسات الدولة العسكرية والأمنية لأي تحرك من أي مجموعة سنية داخل لبنان مؤيدة للثورة السورية أو للجماعات "الجهادية" المقاتلة في سوريا، خصوصاً بعد مواجهات الجيش اللبناني الدامية مع هذه الجماعات في جرود عرسال والتي نتج عنها اختطاف مقاتلي النصرة وتنظيم الدولة أكثر من خمسة وعشرين عسكرياً وشرطياً من القوات النظامية من مختلف الطوائف اللبنانية.
ولعل أبرز دليل على ذلك نجاح الجيش اللبناني في العملية العسكرية التي أنهت ظاهرة مجموعة المتشدد شادي مولوي في العاصمة الثانية طرابلس ذات الأغلبية السنية بتأييد كامل للعملية من قبل المرجعيات السياسية في المدينة.
سابعاً: في محاولة منه لتخفيف الحساسيات المذهبية يحرص حزب الله على إضفاء الطابع الرسمي للعمليات العسكرية التي يريد تنفيذها من خلال وجود الجيش في الميدان، وهو ما حصل في منطقة عبرا في صيدا مع مجموعة الشيخ أحمد الأسير وصولاً إلى مواجهات جرود عرسال.
ثامناً: تمكن الفلسطينيون بإجماع فصائلهم من إنتاج وتكريس موقف موحد بتحييد المخيمات عن أي صراع مذهبي محتمل، علماً أن الحرب الأهلية التي فجرت لبنان عام 1975 ما كانت لتنطلق لولا مشاركة الفلسطينيين فيها، بل قيادة منظمة التحرير الفلسطينية إحدى جبهتيها المتقابلتين.
تاسعاً: إن طبيعة الحروب الأهلية تضعف قدرة الأطراف المتصارعة على السيطرة وتنظيم المناطق والمقدرات والتجمعات السكانية الموالية حتى لو حققت انتصارات ميدانية، وهي قدرة يحتاجها حزب الله بأعلى درجاتها لضمان استمرار لبنان خلفية هادئة له ينطلق منها إلى معاركه الإقليمية التي لا تقف عند حدود سوريا باعتراف أمينه العام، ومما لاشك فيه أن حرباً مذهبية في لبنان ستستنزف الحزب الذي يعمل وفق أجندة عابرة للحدود.
عاشراً: إن الوجود المسيحي في لبنان من حيث النسبة العددية والحضور الرسمي والسياسي لا يشبه الوجود المسيحي في العراق الذي أصبح عنوانه الهجرة، وهو ما لا ينطبق على لبنان البلد العربي الوحيد الذي يتبوأ فيه مسيحي سدة رئاسة الجمهورية. وبالتالي ليس من مصلحة المسيحيين فقدان وطنهم في نفق حرب لا يعلم أحد كيف تنتهي.
أحد عشر: وهي النقطة الأهم، فإن الأطراف الدولية والإقليمية المؤثرة في الشأن اللبناني تدعم استقرار لبنان بدرجة مقبولة، وتوفر له مظلة أمان نسبي على الأقل في المرحلة الحالية، وبانتظار جلاء غبار المعارك في سوريا والعراق. دون أن يعني ذلك عدم حدوث اختراقات أمنية على شكل اغتيالات وتفجيرات حذر منها مؤخراً وزير الداخلية نهاد المشنوق.
كل هذه المعطيات تسهم في تحييد "سُنة لبنان التقليديين" عن أية مواجهة قد تنشأ بين منظمة حزب الله والمنظمات "الجهادية" المقابلة التي أعلنت مراراً أنها لن تألو جهداً في نقل المعركة إلى عقر دار حزب الله عندما تجد الفرصة المناسبة، ولطالما نشرت المواقع الإلكترونية لجبهة النصرة وتنظيم الدولة الإسلامية بيانات تدعو "أهل السنة" في لبنان إلى الانتفاض والاستعداد للمعركة الفاصلة مع حزب الله، لكن معظم هذه البيانات لم يؤخذ على محمل الجد داخل لبنان.
علماً أن التهديدات بالتفجيرات التي ضربت مناطق حزب الله في الضاحية والبقاع خلال السنتين الماضيتين لم تؤخذ كذلك في حينه بجدية كاملة.