« 1 »
يعد تقرير التنافسية العالمي "Global Competitiveness Report" أحد المؤشرات المهمة الصادرة عن جهة دولية منذ العام 2004، وهي المنتدى الاقتصادي الدولي «world economic forum»، إذ يصنف التقرير اقتصاديات هذه الدول على أساس التنافسية " Competitiveness " معتبراً قدرتها على الإنتاجية Productivity" " أهم ركائز قدراتها التنافسية.
وتعني التنافسية " competitiveness " التي نتحدث عنها هنا، في إطار الدول، هي قدرة هذه الدول على تحقيق: التنمية المستدامة، التقدم الاقتصادي، إتاحة فرص العمل للجميع، وتحسين مستوى معيشة المواطنين في هذه الدول.
ومن أجل تحقيق هذا يقوم مصدرو التقرير-وهم علماء في الاقتصاد الكلي «macro economics» والجزئي «micro economics» والتنافسية والإدارة- بعملية بحثية علمية منهجية يجرون من خلالها مسحاً شاملاً على 144 دولة مشتركة في هذا المنتدى لتقييم عدد من الركائز (12 ركيزة) والمؤشرات الموضوعية والمهمة وبعدها يصدرون تقريرهم النهائي المفصل كل عام محتويا على تصنيف للدول الأعضاء وترتيبهم بحسب مقياس هذه المؤشرات.
وتضم الركائز الـ 12 التي يستند إليها تقرير التنافسية العالمي في تقييمه للدول: المؤسسات، البنية التحتية، بيئة الاقتصاد الكلي، الصحة والتعليم الأساسي، التعليم الجامعي والتدريب، كفاءة أسواق السلع، كفاءة سوق العمل، تطور سوق المال، الجاهزية التكنولوجية والقدرة على توطينها، حجم السوقين الداخلي والخارجي الممكن الوصول إليه، القدرة على إنتاج منتجات جديدة ومتنوعة باستخدام عمليات التصنيع المتقدمة، وأخيراً الابتكار.
وتكمن أهمية هذا التقرير ومؤشرات التنافسية الذي تصدره في أن صانعي القرار في هذه الدول التي يشملها البحث والتقرير الصادر يستخدمونه في تشخيص العوامل التي تؤثر على إنتاجيتها، سعياً لتحقيق أهداف التنمية ومنها على سبيل المثال: تعزيز آفاق التوظيف وخلق فرص العمل، تحسين مستوى التعليم والتكنولوجيا، تطوير الرعاية الصحية، وتحقيق العدالة الاجتماعية.
إلا أنني أرى أنه يجب عدم اعتبار تقرير التنافسية العالمية مؤشراً وحيداً لحالة البلاد الاقتصادية والاجتماعية، وهناك بعض النقاط التي تستحق إعادة النظر في تطوير مؤشرات التقييم وبخاصة في نواحٍ تتعلق بقدرة الدول على التوزيع العادل للثروة، لكن رغم هذه التحفظات الشخصية، يظل هذا التقرير ومنهجية البحث المتبعة فيه من أفضل الوسائل المتاحة كأسلوب علمي ومنهجي لتقييم قوة اقتصاديات الدول وتنافسياتها ومستوى المعيشة بها ورفاهية مواطنيها.
« 2 »
تراجع ترتيب
مصر في تصنيف مؤشر التنافسية خلال العامين الماضيين (2013-2014) و(2014–2015)، إذ شهد العام (2013-2014) تراجعاً حاداً في ترتيب مصر لينخفض بمقدار 11 درجة، لتهبط مصر من المركز 107 في العام (2012-2013) إلى المركز 118 في تقرير العام (2013-2104). ثم واصلت مصر التراجع في التصنيف في العام الحالي (2014-2015) لتحتل المركز 119 من أصل 144 دولة.
وظهر في تفاصيل تقرير التنافسية العالمي لعام (2014-2015)، أن مصر تعتبر من أكثر الدول عجزا للموازنة العامة لتحتل المرتبة 142 عالميا من بين 144 دولة.
وأشار التقرير إلى وجود عوامل كنقاط ضعف في "المتطلبات الأساسية"، وهي أحد عوامل التقييم، ومنها العنف والجريمة والتي احتلت المرتبة 137 به، والمرتبة 130 في إهدار الإنفاق الحكومي.
وتراجع أيضا ترتيب مصر من حيث تدني جودة البنية الأساسية لتحتل المركز 125 عالميا، والمركز 121 من حيث عدم استدامة إمدادات الكهرباء.
وعن أهم المؤشرات الاقتصادية، فقد احتلت مصر مراتب متأخرة في التقرير، لتستحوذ على المرتبة 142 في عجز الموازنة العامة للدولة، والمرتبة 125 عالميا في تفاقم الدين العام، والمركز 122 في تدني معدل الادخار القومي.
ومن أبرز المؤشرات التي شهدت تراجعا في ترتيب مصر مقارنة بالعام الماضي كل من: "حماية المستثمر" الذي تراجع بواقع 38 درجة كاملة من المركز 69 عام 2013-2014 إلى المركز 117 عام 2014-2015.
كما تراجع مؤشر الجودة العامة للبنية التحتية بواقع 7 مراكز، من 118 العام الماضي إلى 125 العام الحالي، وتراجع ترتيب مصر في الادخار المحلي من المركز 108 العام الماضي إلى المركز 122 العام الحالي.
وتراجع مؤشر جودة توفير الكهرباء من المركز 107 عالميا العام الماضي إلى المركز 121، ومؤشر توفر خدمات البحث والتدريب من المركز 103 عام 2013-2014، إلى المركز 124 العام الحالي.
ومن المرتبة 25 إلى 39 عالميا، تراجع مؤشر عدد الإجراءات لبدء الأعمال، في حين تراجع مؤشر توفر الخدمات المالية من المركز 112 إلى 129 عالميا، وانخفض أيضا مؤشر سهولة الاقتراض من المركز 100 إلى 129 عالميا، وتراجع مؤشر حصة الشركات المحلية في قنوات التوزيع الدولية بواقع 54 مركزا كاملا من الترتيب 77 إلى 131 عالميا.
إجمالاً في تقرير 2014-2015، فإن سويسرا احتلت المركز الأول وسنغافورة المركز الثاني والولايات المتحدة الأمريكية المركز الثالث وفنلندا المركز الرابع وألمانيا المركز الخامس، في حين احتلت دولة الإمارات المركز 12 وقطر المركز 16 وماليزيا المركز 20 والسعودية في المركز 24. كما احتلت الأردن المركز 64 والمغرب المركز 72 والجزائر المركز 75 كما احتلت تونس المركز 87.
وسبق مصر التي احتلت المركز 119 في تقرير هذا العام دول: جامايكا وناميبيا وكينيا وكولومبيا وترينيدادوتوباجاو وزامبيا وأثيوبيا وغانا والكاميرون والسنغال وبنجلاديش وسورينام وكوت دي فوار ونيبال وهندوراس ونيكاراجوا.
« 3 »
إن تراجع مصر الاقتصادي والاجتماعي الجلي، بل والانهيار بالأحرى، منذ انقلاب الثالث من يوليو2013 العسكري وعسكرة المجال المدني العام في مصر واختطاف المؤسسات الديموقراطية المنتخبة وسياسات القمع والقتل والتنكيل، يتحمله رأس هذه السلطة وزير الدفاع الذي قاد انقلاب الثالث من يوليو.. يتحمل بالمعنى السياسي ومعنى المسؤولية التنفيذية -بحكم الأمر الواقع، حيث يحتكر ويتحكم في كل السلطات بشكل مباشر وغير مباشر- هذا التدهور الحاد والنزيف الاقتصادي والاجتماعي المستمر.
ويبقى السؤال: هل تعرض مؤتمر شرم الشيخ الاقتصادي لعلاج أي من هذه الركائز أو العوامل أو التوصيات في ظل رؤية اقتصادية واجتماعية متكاملة واستراتيجيات مترابطة لتحقيقها؟ الإجابة: بالقطع لا.
للأسف لم يتعدَّ مؤتمر شرم الشيخ كونه مؤتمر علاقات عامة سياسية واقتصادية بالدرجة الأولى، وإعلانات عن مشروعات متناثرة هنا وهناك بجزر منعزلة لا تخدم رؤية حقيقية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية ورفاهية المواطن المصري.
كما اتسم المؤتمر بإعادة تدوير والإعلان عن مشروعات قديمة وتقديمها على أنها إنجاز جديد، حتى وإن كانت فاسدة لا بد أن يعاد التفاوض حولها لتستعيد حقوق الشعب المصري في ثرواته مادامت لم تنفذ بعد.
فتجد على سبيل المثال أهم وأكبر المشروعات التي أعلن عنها من ناحية القيمة، هو مشروع شركة بي بي الإنجليزية « Bp » الذي سيسطر على إنتاج 20 - 25% من إنتاج مصر المستقبلي اليومي من الغاز، تجده مشروعاً قديماً من تركة نظام مبارك الفاسدة تحتفظ فيه شركة Bp بامتياز الاستكشاف منذ عام 1992 دون تنميته وإنتاج الغاز منه - أي أكثر من 20 عاماً وبالمخالفة للقانون الذي يعطي الدولة الحق في سحب منطقة الامتياز وإعادة طرحه في مزايدة عالمية أخرى- وفوق كل هذا، تنازلت مصر عن حصتها المجانية في الغاز المنتج والتي كانت 60% قبل أن يقوم سامح فهمي (وزير بترول مبارك) بتعديلها لتحصل مصر على صفر%، وإقرار هذا التعديل في برلمان 2010 المزور والفاسد والذي كان آخر مسمار في نعش نظام مبارك الذي قامت ضده ثورة 25 يناير 2011، الأمر الذي يتسبب في إهدار ما قيمته 32 مليار دولار قيمة الغاز الذي تم التنازل عنه للشريك الأجنبي (وقد كتبتُ وتحدثتُ عن هذا الأمر في مقالات كثيرة ولقاءات حوارية يمكن الرجوع إليها والوقوف على تفاصيلها).
مما يدلل أيضاً على غياب الرؤية لصانعي المؤتمر وغياب مفهوم التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة للدولة، هذا الحديث المرتجل عن تفاوضات مع شركات مقاولات بخصوص تنفيذ المشروعات. فعندما يكون الإنجاز على مستوى استراتيجيات التنمية الاقتصادية والاجتماعية للدولة لا تجد من هو على رأسها - بحكم الأمر الواقع الآن - يتفاوض بنفسه مع بعض شركات متعددة الجنسيات في مشروعات توليد كهرباء، مثل"سيمينز" و"جنرال إليكتريك". وإن حدث هذا فلا يكون إنجاز "الدولة" المحتفى به هو الحديث عن تحسين شروط تجارية من سعر ومدة توريد - لا نعلم بالمناسبة هل تم اختيار الشركة في بيئة تنافسية تؤكد أن أسعارها الأولية كانت تنافسية على سبيل المثال أو أن عروضها الفنية هي الأفضل - لمشروع محطة كهرباء، فاعلم أن تلك الدولة صارت في القاع حقاً وانعدمت بها أي رؤية استراتيجية وتعمل على مستوى التكتيك الآني واللحظي.
البون الشاسع بين بناء اقتصاديات الدول واستراتيجيات التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة الخاصة بها وبين التسويق لمبدأ المفاوضات على عقد تجاري لشركة أو قطاع مع شركة متعددة الجنسيات، هو نفس الفارق بين دول أسست نظماً ديموقراطية مستقرة بها مؤسسات حاكمة وبين دول متخلفة يسيطر الاستبداد، وبالتبعية الفساد، على مفاصلها ومازالت في حقبة حكم الفرد، وتزداد الكارثة إذا كان الديكتاتور جنرالاً عسكرياً والذي ربما لا تساعده خلفيته التعليمية وممارساته السياسية والاقتصادية على أن يقدم أفضل من هذا الأداء.
« 4 »
نجح مؤتمر شرم الشيخ دعائياً وإعلامياً ولن يجاوز أثره –بتقديري- هذا الأمر، وربما يعلم ذلك منسقوه باعتباره «لقطة» جميلة وأنيقة، كتلك اللقطة التي كان يتحدث عنها عباس مدير مكتب وزير الدفاع المنقلب مع زعيمه عن مشروع المليون وحدة سكنية في التسريب الشهير.. لقطة ليتجمل بها من أجرم وأفسد بحق هذا الوطن.
ستنتهي نشوة المؤتمر وزيفها الإعلامي بعد أسابيع معدودة، لكننا سنكون قد خسرنا حينها الملايين التي أنفقت لإقامة المؤتمر وحرقنا فرصا مستقبلية قد تحتاج إليها مصر في مستقبل قريب إن شاء الله، هذا بالإضافة إلى خسائر جمة عن بعض عقود فاسدة يتم إعادة تدويرها كمشروع Bp لإنتاج الغاز الذي تحدثنا عنه والذي يغني إصلاح فساده عن مليارات التسول.
إن الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية البنيوية والهيكلية لن تتحقق في ظل نظام عجز عن تحقيق هذا لأكثر من 30 عاما حتي ثار الشعب المصري ضده في 25 يناير 2011، فإذا به يعود بعد الثالث من يوليو 2013 في شكله القديم لكن بصورة أكثر إجراماً ودموية وفسادًا.
لن تتقدم مصر إلا عندما تستعيد ثورتها لتتخلص من نخبة فاسدة مستبدة، وتستعيد مساراً مدنياً ديموقراطياً حقيقياً تبني به مؤسساتها بناءً سليماً وبشكل يراقبه الشعب، تتحقق به دولة عدالة وسيادة للقانون.
لن ينهض بمصر مجتمع ممزق يستمد مستبد شرعيته من تمزيق أواصره وكبت حرياته، فشروط أي تنمية وتنافسية مستدامة تتأسس في جو سلام مجتمعي.
لن يتحقق ازدهار اقتصادي مستدام إلا في بيئة نقية غير فاسدة تنطلق فيها عقول الشباب وإبداعاتهم لتلبي طموحاتهم في وطن قوي يحيوْن فيه بحرية وكرامة.