تفرض أحداث
اليمن الأخيرة استئناف النقاش حول علاقات الأقليات والأكثريات في الدول العربية. جليّ أن كل محاولات إنقاذها وإعادة صوغها تنهار وأن الاحتراب والاقتتال هما الخيار الوحيد المتاح.
وراء الفشل الكارثي الذي ستدفع الأجيال العربية المقبلة ثمناً باهظاً له، أسباب اجتماعية واقتصادية وسياسية سال حبر كثير في وصفها وتعليلها. وأنتج الفشل المذكور تسويغاته «الثقافية» و «الفكرية» التي تبرر للأكثريات والأقليات العرقية والدينية والطائفية حمل السلاح والانخراط في حروب الإبادة المشتهاة.
يضطلع بمهمة التسويغ هذه كتبة طائفيون استتروا طويلاً بالعقائد اليسارية والعلمانية، بيْد أن أقنعتهم لم تصمد أمام رياح التغيير والثورات العربية، بغض النظر عن مآلات هذه الأخيرة ومصائرها.
كشفت أهوال الثورات والحروب الجارية عقم المواقف والمراجعات السابقة التي حاولت تفسير وفهم الواقع العربي، وأظهرت عزلة الكتاب العرب من كل أداة معرفية كافية للارتقاء الى تشخيص ما يجري حولهم فبادر أكثرهم الى العودة الى مرتعه الطائفي وان لم ينسَ أن يغطي هنا أيضاً أقواله بركام من الرطانات والسفسطة. فهذا واحد «يساري» يتحدث عن «الضرورة التاريخية لانتصار الشيعة» باعتباره مقدمة التحرر العربي. قد لا يكون من المجدي حتى ذكر هذه الأقوال وأصحابها، لكن من المفيد التعرف إلى الضحالة التي بلغتها لغة بعض النافخين في أوار الموت العربي.
الأهم من ذلك أن فكرة «طليعية» الأقليات وحملها مشعل التنوير والتقدم وفتح أبواب العلم والعالم أمام العرب والتي وجدت من يروج لها على ضفتي الانقسام اليميني واليساري في العالم العربي، قد بلغت انحطاطها الأخير وانقلبت دعوة صريحة إلى الانغماس في الحروب الأهلية، ظالمة كانت هذه الاقليات أو مظلومة.
وفي الطور الإيراني الحالي من استدراج الأقليات واستتباعها، ظهر من وسع «طليعية» الأقليات لتتجاوز المسيحيين الشوام الذين كانوا على اتصال مع المراكز الغربية منذ قرون، لتشمل سكان الساحل السوري وجبال صعدة. وجاء من يقول إن الانتماء الى
الأقلية والتضاد مع الأكثرية هو قيمة وامتياز بذاته بغض النظر عن الصلة التي كانت هذه الاقليات تقيمها بين الخارج والأكثرية على امتداد مئات السنين.
الطليعية، وفق وجهة النظر هذه، هي التناقض والانزواء ورفض الاندماج مع بقية المكونات الوطنية. وهي أيضا الامتناع عن النقد الجريء لشطط الأكثرية وانهيار مجتمعها وأزماته وإخفاقها في تشكيل دولة ومجتمع عابرين للطوائف والأعراق، واعتبارها كتلة صماء يعشش فيها تخلف لا علاج له ولا دواء إلا بالتحالف مع الخارج.
هذه سمات عانى منها لبنان منذ عشرات الأعوام وما زال يعيشها إلى اليوم بأشكال مختلفة. وها هي المعاناة ذاتها تبرز في العراق واليمن وسورية حيث تعلو أصوات تنسب الحضارة الى سكان الساحل الذين اكتشفوا الحرف وصدّروا الحضارة والذين ينتمون إلى أصول فينيقية، وكأنها نسخة طبق الأصل عن خطاب الأقلية المسيحية عشية وأثناء الحرب اللبنانية. وها هي أبواق الممانعة تنسب الى الزيديين اليمنيين صفات سياسية وأيديولوجية بنيّة إلحاقهم بمشاريع هيمنة خارجية ستفضي في نهاية المطاف الى الدمار العميم.
قوى دولية وإقليمية عدة دخلت على مدى زمني طويل من خلال صدع العلاقات بين الأقليات والأكثريات في الدول العربية، ونجحت في استغلاله لتحقيق مصالحها. وفي كل مرة تتأخر بلداننا عن علاج مشكلاتها بوسائلها الذاتية يبرز من يتبرع لأداء دور هادم للذات ومفرق للجماعات.
(نقلا عن صحيفة الحياة اللندنية)