قد يمكن القول عن معركة
إدلب التي حسمها «
جيش الفتح» في بضعة أيام، وانتهت بطرد قوات النظام الكيماوي وميليشياته منها، إنها توجت مساراً متصاعداً من انتصارات المجموعات المعارضة على النظام، بالنظر إلى سيطرة مجموعات معارضة أخرى على بصرى الشام في الجبهة الجنوبية، والخسائر الكبيرة التي يتكبدها حزب الله اللبناني وميليشيات شيعية أخرى متعددة الجنسيات في جبهات القلمون وحوران وجبهات أخرى.
تشير هذه المعارك، عموماً، إلى تراجعات كبيرة لقوات النظام وحلفائه على الأرض، وإلى هزال مقاومته حين يتعرض لهجمات منسقة. وقد أثبتت معركة تحرير إدلب أن هزيمة النظام ليست بالأمر الصعب حين تتوفر غرفة عمليات منسجمة كحال «جيش الفتح» وبعض السلاح الثقيل والمتوسط.
لكن المدينة الصغيرة التي ظلت، طوال السنوات الأربع الماضية، تحت سيطرة النظام بخلاف ريفها الذي كان من أولى المناطق التي خرجت عن سيطرته، لم تهنأ بالتحرير أكثر من يومين. فكما هو متوقع بدأت غارات النظام الجوية التي استهدفت قبل كل شيء مبنى المشفى الوطني، واستخدمت البراميل القاتلة المزودة بغاز الكلور لإيقاع أكبر عدد من المدنيين انتقاماً لخسارته المدينة. ذلك أن المبدأ الرائز لحرب النظام لم يتغير منذ بداية الثورة: إذا خرجت منطقة عن سيطرته، فهي لا تستحق البقاء! بل تدميرها على رؤوس من فيها، كما ينقل على لسان رفيق الحريري في لقائه الأخير مع جزار دمشق الذي هدده حرفياً بـ«تكسير لبنان فوق رأسه». وإذا كان قرار مجلس الأمن رقم 1559 القاضي بخروج جيش النظام الكيماوي من لبنان قد حمى هذا البلد من «التكسير» (لكن الحريري نفسه، وساسة ومثقفين لبنانيين آخرين، دفعوا الثمن اغتيالاً) فالفيتو المزدوج الروسي ـ الصيني من جهة، ولامبالاة المجتمع الدولي من جهة أخرى، سمحا بتحطيم سوريا تماماً.
بهذا المعنى يصبح «تحرير» إدلب خسارة محضة لأهاليها ولسوريا عموماً، ما دام غير مندرج في إطار استراتيجية وطنية عامة للإطاحة بالنظام، في إطار زمني معقول. فكل منطقة يخسرها النظام معرضة للتحول إلى ركام فوق رؤوس من يتبقى من سكانها بعد نزوح معظمهم إلى مناطق أخرى، داخل سوريا أو خارجها، بحثاً عن الأمان.
الواقع أن عمليات النزوح الجماعية هذه تشير إلى مدى الانقلاب الذي يجري في أولويات السكان. فمقابل إرادة الحرية التي أخرجتهم إلى الشوارع وواجهوا رصاص قوات النظام وشبيحته بأيديهم العزلاء، نرى اليوم مجموعات خائفة هائمة على وجوهها من مكان إلى آخر طلباً للأمان الوجودي فقط. هذه هي الأرضية الخسيسة التي تنطلق منها دعوات ما يسمى بالتيار الثالث أو مبادرات «المجتمع المدني» الممولة دولياً أو، أخيراً، مبادرات سياسية عقيمة كمبادرة دي ميستورا التي وأدها النظام قبل أن ترى النور في أحد أحياء حلب المحطمة.
هذا ما يدفعنا إلى رسم ملامح من المشهد الاقليمي ـ الدولي الذي في إطاره جاءت معركة تحرير إدلب. ففي الوقت الذي يقترب فيه الموعد النهائي للمفاوضات النووية بين
إيران ومجموعة 5+1 في لوزان، من غير مؤشرات مؤكدة إلى نتيجتها، سلباً أو إيجاباً، تتضارب الأنباء حول حسم معركة تكريت بعدما دخلت طائرات التحالف الدولي على خط المعركة مقابل انسحاب قوات الحشد الشعبي الشيعية المتهمة بارتكاب أعمال انتقامية ضد سكان المدينة من السنة، فيما تمكنت السعودية وحلفاؤها في عملية «عاصفة الحزم» من الحصول على دعم القمة العربية والجامعة العربية من غير اعتراضات ظاهرة، فضلاً عن دعم الدول الغربية الرئيسية بما في ذلك الولايات المتحدة.
للمقارنة، كانت الشروط الاقليمية والدولية مختلفة تماماً حين بدأت عملية تحرير حلب، صيف العام 2012، وكان النظام في إحدى أضعف لحظاته بعد تفجير خلية الأزمة وعدد من الانشقاقات المهمة في منظومته العسكرية والدبلوماسية، ولم يكن تنظيم الدولة (
داعش) موجوداً. مع ذلك تحول تحرير نصف المدينة إلى كارثة عليها، سكاناً وعمراناً، فضلاً عن انتهاكات الجيش الحر بحق السكان. أما الآن، فنحن في زمن يتحدث فيه وزير الخارجية الأمريكية جون كيري عن ضرورة التفاوض مع الأسد، ويقوم برلمانيون فرنسيون وبلجيكيون بزيارات إلى سفاح دمشق، وفي ظل حرب تقودها واشنطن ضد «دولة الخلافة» في العراق وسوريا، من غير أي احتكاك مع طائرات النظام التي تلقي ببراميل الموت على المدنيين. وفي الوقت الذي أصبحت فيه معركة اليمن ضد الحوثيين على رأس جدول أعمال دول الخليج، ليتراجع الاهتمام بالمأساة السورية إلى الخلف عربياً ودولياً.
كل هذا ولم نتحدث عن طبيعة المجموعات المسلحة التي اجتمعت في غرفة عمليات «جيش الفتح». فالعمود الفقري لهذا الجيش إنما يتشكل من جبهة النصرة التابعة لمنظمة القاعدة، وأحرار الشام التي أدمجت في بنيتها مؤخراً صقور الشام، وهما منظمتان سلفيتان جهاديتان من بيئة القاعدة نفسها، إيديولوجياً على الأقل. وعلى رغم تصريحات الناطق باسم أحرار الشام «الدبلوماسية» حول تشجيع إدارة مدنية للمدينة «تقدم نموذجاً إيجابياً» فالواقع على الأرض يشير إلى تنازع الفصائل على الحصص في الإدارة المفترض أنها مدنية. وعلى رغم تطمينات الناطق باسم جبهة النصرة بشأن مصير العائلات المسيحية في المدينة، تتحدث أنباء عن إعدام رجل مسيحي وابنه بدعوى بيعهما للخمور، فضلاً عن أن التطمينات المذكورة لا تشمل أولئك الذين تعاونوا مع «العدو النصيري» حسب تعبير عبد الله المحيسني من شرعيي جبهة النصرة.
ولا تقتصر المشكلة مع المنظمات الجهادية على موضوع انتهاكاتها الفظيعة بحق السكان، أو قتالها ضد فصائل غير إسلامية أقرب إلى تعريف الجيش الحر، بل تتجاوز ذلك إلى كونها لا تعترف بسوريا الوطن والانتماء، مستبدلةً إياهما بمشروع الدولة الإسلامية، وموقفها الاستئصالي من الأقليات المذهبية غير السنية. كل ذلك يجعل من «ثورتها» غير ثورة سائر السوريين، ومن دولتها غير الدولة التي من أجلها خرج السوريون في مبدأ ثورتهم. بالمقابل، لا يخفي كثير من السوريين فرحتهم بأي هزيمة يتلقاها النظام وحلفاؤه، بصرف النظر عن الجهة التي ألحقتها به، خاصةً وقد بلغ التدخل الإيراني المباشر وغير المباشر، عبر الميليشيات الشيعية متعددة الجنسيات، مبلغاً تحولت فيه الثورة ضد النظام القاتل إلى حرب تحرير وطني في نظر كثيرين.
(نقلا عن صحيفة القدس العربي)