إن
الحرب التي اندلعت في
اليمن كارثة من الكوارث الكُبرى على الدول التي تخوضها وعلى اليمنيين وعلى الأمة كلها.
منذ الحرب العالمية الثانية لم ينتصر جيش نظامي على مجموعات فدائية تمارس حرب العصابات في أرضها بقصفها من الجو، وقد خسر الأمريكيون في فيتنام والعراق وأفغانستان، وقد خسر فيها الروس من قبلهم والبريطانيون قبلهما، وخسر الفرنسيون في فيتنام قبل الأمريكيين، وخسروا في الجزائر، وخسر الإسرائيليون في لبنان وفي غزة. لذلك فإن الاحتمال الأرجح هو أن تتطور الحرب الجوية في اليمن إلى اجتياح بري بقيادة المملكة العربية السعودية ومشاركة مصر وباكستان.
وهذا إذا وقع، فإنه لن يزيد الوضع في اليمن إلا سوءا، وسيجر الوبال على الأمة والإقليم برمته. إن الحلف الذي تشكل في ما يسمى بعاصفة الحزم حلف طائفي بامتياز، والطائفية تغذي الطائفية المضادة، وستبدو الحرب وكأنها موجهة نحو ديمغرافيا كاملة، نحو الطائفة الزيدية ومن يتعاطف معها أو يقترب منها دينياً، وهذا سيؤدي بها إلى الالتفاف حول مقاتليها. فستزداد أعداد جماعات كأنصار الله وغيرهم، وستكون هناك مدن وقرى وقبائل وجبال بأكملها تعمل معهم وتنقل لهم المعلومات عن تحركات خصومهم.
إن كل خسارة عسكرية تكبدها "عاصفة الحزم" للحوثيين، سيعوضهم عنها الحشد الطائفي الناتج، كرد فعل، عن الطابع السياسي والطائفي والدعائي للحملة. فهذه العملية العسكرية التي يتشارك فيها حكام مصر والرياض، تهزم نفسها بنفسها، فهي ستفشل مهما نجحت، لأن كل نجاح عسكري هو في حد ذاته سبب من أسباب الفشل السياسي، وكل قتيل يسقط يحل محلة عشرة متطوعين، كما هي العادة في مثل هذا النوع من الحروب.
فإذا كانت هذه هي حال القوات القاصفة جوا والمجتاحة برا، فإن قادتها لن يجدوا بداً من أن يحاربوا الفدائيين بالفدائيين، ويعوضوا عن عجز جيوشهم النظامية بحشد ميليشيات طائفية سنية توازن الميليشيات الزيدية. المشكلة هنا أن هذه السياسة لن تؤدي إلى حسم المعركة، وإنما إلى وضع شبيه بالوضعين السوري والعراقي، حيث تكون خريطة السيطرة العسكرية على الأرض متطابقة مع خريطة التوزيع الجغرافي للطوائف. باختصار، ستؤدي هذه السياسة إلى تقسيم اليمن عمليا، كما تم تقسيم العراق وسوريا.
فحين يتم ذلك، فإن الميليشيات السنية التي يكون السعوديون والمصريون والباكستانيون قد لجأوا إليها لعجز جيوشهم النظامية عن الحسم، ستدرك قيمتها، وتعلم أن الجيوش النظامية والدول الرسمية هي التي تحتاجها لا العكس، فستخرج عن طاعة من ساهم في إنشائها منهم، وتتكون إمارات سنية إسلامية، لا تطيع القاهرة والرياض، في مواجهة إمارات زيدية إسلامية لا تطيع القاهرة والرياض أيضاً.
وليت الضرر الذي ستسببه هذه الحملة يقف عند حدود اليمن، إن حجم اليمن الجغرافي والديمغرافي كبير بما يكفي ليطول الصراع فيه، وإن من ظن أن الحسم السريع فيه ممكن كالبحرين واهم، وإذا طال الصراع طال معه الخطاب الطائفي الذي يغذيه، والذي تعتمد عليه الميليشيات المتقاتلة من الطائفتين، وهي التي تعتمد عليها الجيوش النظامية بدورها. فإذا طال الخطاب الطائفي، وتشبع بالدم المسفوك في اليمن، فإنه سيشحن صدور شيعة وسنة من سائر الجزيرة العربية والعالم العربي والإسلامي فيذهبوا ليقاتل بعضهم بعضاً في اليمن، أو يستقربوا فيذهبوا لقتال بعضهم بعضاً حيث هم في بلدانهم.
وإن كان انتشار الخطاب الطائفي في الأمة خطراً في كل الحين، فهو في هذا الحين أخطر بكثير. لقد كتبنا مراراً أننا في العالم العربي، وخاصة منذ عام ألفين وأحد عشر، نعيش زمنا تحل فيه الفكرة محل الدولة، والسردية محل الهيكل، والقناعة محل الطاعة، والعلاقات الشبكية الأفقية محل العلاقات الهرمية الرأسية، في تحديد السلوك السياسي للناس. فالناس لم يعودوا يطيعون الدولة أو الجيش أو الحزب ذا القيادة المركزية، بل هم يقتنعون بفكرة أو سردية تنتقل في وسائل الإعلام أو في دور العبادة أو في المقاهي أو من فم لأذن، ثم يرتجلون سلوكهم السياسي بناء على ما اقتنعوا به، فيقودهم خيالهم، غيمة من الأفكار تسير أمامهم، لا يمكن قتلها ولا اعتقالها. وهم في ارتجالاتهم الكثيرة من الأطراف يتناسقون ويتسقون كأنهم في تنظيم هرمي مركزه واحد، كأنهم في حزب، كأنهم في دولة، بينما هم بلا تنظيم ولا حزب ولا دولة. وسواء كان هؤلاء الناس مجتمعين في مظاهرة سلمية نزل إليها كل منهم عن قناعة غير مأمور، وارتجل زمن نزوله ومكانه ارتجالا، أو كانوا مجتمعين في خلية مسلحة، فإنهم، في الحالين، يغلبون التنظيم الهرمي المركزي القائم على طاعة الأدنى للأعلى المسمى بالشرطة أو الجيش أو الدولة. فإن كانت هذه الفكرة أو السردية التي يتبعها الناس، فكرة جامعة تقدمية فإنها تنتج ثورات ربيعية تحمل معها وعودا كبرى، وإن كانت طائفية ثأرية، فإنها تولد حروبا أهلية.
وإن حرب اليمن هذه، ستطول ويطول معها استخدام الخطاب الطائفي، وستغذي السردية الطائفية التي ولدت في الحرب السورية، ومدت جناحيها في العراق، ثم أصبحت في اليمن طائر رخ، يغطي ظله جزيرة العرب ووسط آسيا وشمال إفريقيا، فتنبع في الظل البراكين الصغيرة ثم تكبر، ثم لا يكون للدول والجيوش وأجهزة الشرطة قبل بها.
وفي هذا الخضم المائج من الجيوش والميليشيات والعمائم والسباب، ترتاح إسرائيل وتعلم أن الكراهية التي تنمو بين أطياف الأمة هي حصنها الأحصن، وأننا، إذ نقصر أعمارنا بسلاحنا، نطيل في عمر إسرائيل إلى ما شاء الله.